ثقافة وفنون

نقد بفيض الحب وتحرر من الذاتية*

 

‭}‬ المحامي شوقي ساسين**
تأخذُ الحيرةُ بالنظراتِ شدًّا من أولِ غلافِ الكتاب: أسماءٌ ظليلةُ الحروف، منثورةٌ في فلكٍ أسود، على جهتِه اليمنى من فوقُ، هلالٌ لا يضيءُ ولا قُلامةَ زاوية؛ ثمَّ عنوانٌ ثلاثيُّ السطور يقولُ آخِرُه بالأبيضِ والأحمرِ فعلَ «أحببت»، فتسألُ العينُ أختَها: كيفَ للمحبة الناصعة البيضاء أن تستقرَّ في هذا الحِضْن الأسود؟ ولماذا هلال الغلاف لا يضيءُ نورُه لجميعِ الذين في البيت؟ لكنْ، ما هو إلا القليلُ من الخوض في عمقِ الكتاب، حتى تنقشعَ الحيرةُ عن دهشةٍ تفوحُ كعطرٍ صباحيِّ التقويم، وتسربُ إلى النفوس، كما إلى الأفقِ أجنحةُ النوارسِ التي تضرب الريحَ بالرحيل من أولِ البحر حتى امتلاء الغيومِ بأنفاسِ الموجِ المالحة. ساعتذاك يُدركُ القارئُ أن هذا الغلاف القاتمَ ليس من ورق مقوّى، بل من فتيتِ مسكٍ أسودَ، ذاك الذي قالت عنه الكتبُ إن عطرَه يدوم ويدوم… كأنَّ الياس عشي منذ البدايات يريد أن يوحي لنا بأن اختيارَ اللونِ الأسودِ غلافًا لكتابه، إنما كان دعوةً منه لقلمِهِ أن تسيل الدواةُ مِسكَ مودّةٍ لا تحول، على أسماءِ أولئك الذين قرأ لهم وكتب عنهم وأحبَّهم.
ولعلَّ من النادرِ في المشهد الأدبي العربي، أن نقرأ نقدًا راقيًا كما في هذا الكتاب، يبتعد عن الإشادة العاطفية وعن التبخيس كليهما، فلا يُثْقِلُ بالمنةِ ولا يُنزِلُ المـَقتَ على من كتب فيهم، بل ينحو بموضوعية أدبية إلى حيثُ المحبةُ تعمل. ذلك أن «مشكلةَ النقد مشكلة دائمة، لالتصاق هذا النوع من الكتابة بنفسيّة الكاتب ومدى تحرّره من نزواتِه وكبريائه». لكن الياس عشي، من قبل أن يكتبَ حروفَ اسمِه، تحرَّرَ نهائيًّا من سماتِ الذاتيّةِ المريضةِ التي تتناسلُ فيها النزواتُ وتشتغلُ الكبرياء، وذلك منذ اعتناقِه عقيدةَ الإنسان المجتمع.
بيد أني أظلِمُ الكتاب إذا حصرتُه في عالَم النقد المحض. فهو بالحقيقة سياحةٌ في حواشي مواقفَ ومؤلفاتٍ وشخصيات وآراء، سعى بها قلمُ الكاتب على متنٍ سيّالٍ بين الشذا والحنين، فمرَّةً يقولُها قارورةً من الرحيق، ومرةً يقولُها زهرةَ لوزٍ ترتعي البياض، ودائمًا يقولُها مساحةً من لغةٍ يرجعُ هذا العمرُ من جيرتِها ممتلئَ الوِفاض. ولعلَّ النص الذي عنوانه: «الإبداعُ هو القدرةُ على إحداثِ فرق»، مثالٌ على أن الكاتبَ لا يكتفي بتحرّي مواطن الإبداع لدى سواه، بل يتركُ لمداده أن يُحدثَ الفرقَ فيه هو أولًا، فلا يتناولُ قضيةً أو مؤلِّفًا أو مؤلَّفًا، إلا بلغةٍ مختلفة تتجاوز سلاستُها الشفّافةُ بعضَ مشكلات النثر الحديث، بشقَّيْه العاديّ والشعري، الذي يكاد الجمالُ فيه أن يقتصرَ على أناقةِ التعبير ومتانة الأسلوب، من غير مضمون حداثيٍّ مختلف، فيبدو الكلام ساعتذاك، كبيوتِ قُرانا التي اغترب عنها أهلُها، فهي من خارجٍ هندسةٌ وشموخ، ومن داخلٍ صمتٌ وغبار. الياس عشي كلماته منازلُ يشغلُها أصحابُها بملءِ فرح الحياة.
ولأنه يكتب أصلًا لأجل الناسِ لا لأجلِ نفسِه فقط، فهو بهذا يحقِّقُ إيمانه بما دعا إليه أنطون سعاده: أن يكونَ الأدبُ التزامًا بنظرةٍ جديدةٍ إلى الحياةِ والكونِ والفنّ، منبعثةٍ كمثلِ تموز من رماد تراث الأمة الذي تراكمت فوقه أكداسُ العصور. ولهذا لا تُخفى البتة الإشارات إلى فكر الزعيم، كأن يقول مثلًا: «أنسي الحاج صنع أبجديةً أخرى»، أو كأن يكتبَ عن «دور المدارس في تجذير التعصب الطائفي»، أو يدرسَ «أنطون سعاده ناقدًا وأديبًا» أو سوى ذلك من مقاربات «نهضوية» بحسب الأدبيات القومية. وكم استوقفني النصُّ الذي عنوانه: «مدينتي حملت حقائبَها ورحلت»، فأعياني أن أعرف إن كان يحكي عن اللاذقية مدينتِه الأولى، أو عن طرابلس مدينته الثانية، أو حتى عن بيروت أو دمشق، أو سواهنَّ من مدائنِ أعمارِنا التي حزمَت حقائب الرحيل، ودفعَت بأبنائها إلى أعتابِ المنافي على أعقابِ التنابذ اللاوطني، فيما نارُ صهيونَ ومشتقاتِها لا تزال تلتهمُ رونق الحياةِ وخضرةَ الذكريات.
ويا أستاذ الياس
تقولُ في كتابك: «الحجْرُ على السؤال هو حجرٌ على العقل». أناتَك لا تحجُرْ، ودعني بوافرِ حريةِ عقلي أسألُك: متى يكون لنا منك موعدٌ مع كتاب جديد؟
*كلمة ألقيت في ندوة توقيع كتاب الأمين الياس عشي «قرأت لهم.. كتبت عنهم.. أحببتهم»، في الرابطة الثقافية في طرابلس.
** رئيس اللجنة الوطنية للأونيسكو.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى