الكاتب الفرنسي جوليان غراك: أردت أن أكون مكتشفاً ولم تكن الكتابة في ذهني
كتب حسونة المصباحي: خلال مسيرته الأدبيّة الطويلة، ظلّ الكاتب الفرنسي الكبير جوليان غراك 1910-2007 محافظا على النمط نفسه الذي اختاره لنفسه منذ بداياته. كان يكره الأضواء والشهرة متحاشياً دائماً وأبداً الزجّ بنفسه في الخصومات والمعارك الأدبيّة الكثيرة في بلاد فولتير. وكان الوحيد بين الكتاب الفرنسيين الذي رفض جائزة غونكور الرفيعة لدى فوزه بها كتتويج لروايته «رمال السّاحل».
يعتبر غراك في نظر النقّاد «آخر الكلاسيكيين» في الأدب الفرنسي الحديث، كما يعتبر «كاتباً من الزمن القديم»، أي من الزمن الذي سبق هيمنة وسائل الإعلام بجميع أصنافها.
منذ عام 1950، وكان في أوج مجده الأدبي، ثار جوليان غراك من خلال مقالاته لاذعة اللهجة على الأخطار التي تتهدّد ما كان يسمّيه بـ»الأدب الرفيع»، المتمثّلة خاصة في الاستعباد التدريجي للعقول، وفي التقديرات المتسرعة والخاطئة، وفي ظهور جمهور فاقد البوصلة لا يقرأ ولا يعني الكتاب بالنسبة إليه سوى قيمة تجاريّة. وكان مناهضاً أيضاً لـ»المطبخ الأدبيّ الصغير»، مختاراً التقشّف والصوم والعزلة.
عام 1992، بعدما أصدر «دفاتر الطريق الكبير»، قرّر غراك الانقطاع عن الكتابة، ومضى للعيش في البيت العائلي في قرية صغيرة على ضفاف نهر لوار. وبرفقة شقيقته، ظلّ حتى آخر رمق من حياته يستمتع بملذّات الحياة الريفيّة البسيطة، بعيداًً عن «أمراض الحداثة».
متحدثاً عن نفسه، يقول جوليان غراك: « بدأت أقرأ في سنّ باكرة جدّا. ففي سنّ الرابعة، كنت أقرأ من البداية حتى النهاية مجلة L illustration. وكنت أسعى إلى اقتناء كل واحد من كتب جول فيرن، ولم يكن بالنسبة إليّ «الكاتب الحقيقي» حسب مواصفاتي له في ما بعد. بل كان بئراً من المعلومات فحسب،. وكانت أعاجيبه متعدّدة ومتنوّعة بحيث يمكننا أن نقول إنها لا تنضب البتّة. وكان جول فيرن يفتح العالم أمامي بلداً بعد آخر، وقارّة بعد قارة. وكان رائعاً لناحية المحتوى. أما لناحية الشكل فإنه كان صفراً. لذا لا يمكنني أن أقول إنه هو الذي حرّضني على الكتابة».
حين كانوا يسألونه خلال الحرب الكونية الأولى عمّا يتمنى أن يكونه، كان غراك يجيب: «أريد أن أكون مكتشفاً». ولم يكن يطمح إلى أن يصير كاتباً. لكن في المرحلة الثانويّة، وكان في الثانية عشرة آنذاك، بدأ يدرك معنى التعبير الجيّد. حدث ذلك بعد قراءته، التي يعتبرها خارقة، للكاتب الأميركي إدغار آلن بو والتي نقلها إلى الفرنسية شارل بودلير.
عن كتابه الأول «حصن أرغول» يقول جوليان غراك: «من المؤكد أن هذه الخطوة التي كان لا بدّ من القيام بها، كان يجب أن تحدث في هذا اليوم أو ذاك. كان هناك عامل مادي صعب لعب دوراً مهمّا في هذا الأمر. لم أحصل على التأشيرة التي كنت أنتظرها للذهاب إلى روسيا لإعداد بحث جغرافي، وكانت العطلة الصيفيّة بدأت، وهكذا شرعت أكتب «حصن أرغول»».
يكشف غراك أنه واصل الكتابة وهو في حيرة من أمره، وأنهى الكتاب في غضون بضعة أشهر، ما جعله، يعيد النظر آنذاك في جميع مشاريعه، إذ يظن الكاتب أنّ من المحتمل أن تكون تجّمعت في داخله طاقة غنائية لم يكن واعياً بها حينها.
بعدما أنهى كتابه الأول في خريف 1937، شعر جوليان غراك بأنّ «حمّى الكتابة» بدأت تخفّ. لكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية أُرسل إلى الجبهة، غير أنه وقع في الأسر، وزج به في معسكر الاعتقال النازي حيث كان يواجه مع الجنود الآخرين الجوع يوميّا، ومع ذلك شرع يكتب من جديد.
بعد انتهاء الحرب واصل غراك الكتابة بالحماسة نفسها، ورسخ الكاتب مفهومه الخاص للكتابة، إذ لا يرى أن تطور الكاتب الداخلي يشبه تطور التاريخ الموسوم دوماً وأبداً بوقفات وانقطاعات ومفاجآت وغزوات ودمار.
يقول غراك: «إن إحدى خاصيات الكاتب التي تحدّد عمله بشكل عميق تبدو لي، إذا لم يكن عبدا للناشرين ومتعدّد الموضوع بحسب الطلب، هي أن يفرز من حوله، باكراً، فقّاعة مرتبطة بأذواقه وثقافته وعالمه الداخلي وقراءاته وأحلامه، ويجول معه في كلّ مكان يذهب إليه «عالم داخلي» كان صنعه لنفسه في سنّ العشرين معظم الأحيان. في هذا «العالم الداخلي» يحتفظ الكاتب بكلّ ما يضيء له الطريق ويجعله في مأمن من العواصف الخارجيّة».