أسلوب «التبادل بين الإقليم والداخل» إلى تقهقر
د. وفيق إبراهيم
اعتادت قوى سياسية متعدّدة في لبنان على اعتماد أسلوب مقايضة «شفهي» بين أدوارها المتضخّمة في مؤسسات السلطة وبين دور حزب الله بشقّيْه المدافع عن الأرض في وجه «إسرائيل» والمتصدّي للإرهاب بمختلف أنواعه وأشكاله.
انتصبت هذه القاعدة من دون وجود اتفاق مكتوب، لأن المقاومة اعتبرت أنّ الأولوية هي للدفاع عن الأرض والمجتمع.. أما «الباقي» فبالإمكان العودة إليه بعد الانتصار.. فيما اعتقد «المستفيدون» أنّ تجذّرهم في مؤسسات السلطة «خالد كالأرز».
ماذا كانت النتيجة حتى الآن؟ حققت المقاومة إنجازات ضخمة على مستوى «ردع» «إسرائيل» وتصديع الإرهاب مقابل غرق أصحاب «المقايضات» في أكبر عملية فساد جعلت الدولة عاجزة عن أداء كامل ما تنتجه الدول عادة من خدمات.. فالأمن سائب والكهرباء النادرة قطاع ضخم لأكبر عمليات فساد.. والنفايات المركونة قرب المنازل تزيد من معدل الإصابة بالسرطانات وتشكل كهفاً أسطورياً لأكبر «منهبة» علنية ترفع من ثراء السياسيين. والمياه الملوّثة أسلوب لابتزاز اللبنانيين وتدفعيهم أثمان مياه معقمة تنتجها شركات خاصة. أما رائحة الصفقات والسرقات فتزكم الأنوف بما يؤدي إلى وجود لبنانَيْن إثنين على أرض واحدة. مقاومٌ يبذل الأرواح وكل الإمكانات للدفاع عن الوطن وآخر فاسدٌ يدير السلطة الداخلية بأسوأ ما يمكن لسلطة أنّ تقوم به على مدار التاريخ.
فكيف يستقيم وضعٌ بمشهدين متناقضين على أرض واحدة ويكون قابلاً للاستمرار؟
الاهتراء الذي يهدّدُ بإسقاط الدولة، عامل أساسي يتسبّب بأضرار جسيمة للمواطنين ويعرقل دور المقاومة.. ما يفرض إعطاء عمليات إنقاذ المجتمع، الدور الكبير وذلك بتحرير المؤسسات السياسية التي تديره، وإعادة وضعها على سكة «النزاهة» والاستقامة.
ضمن هذه المعطيات، بَدَت الانتخابات اللبنانية فرصة تاريخية لإنقاذ الدولة. مع تزويد المقاومة عناصر دفع جديدة، ترفع من معدلات إنتاجها في المهام الموكلة إليها باسم التاريخ وكل المقاومات التي حطّمت المستعمرين في المنطقة في القرنين الماضيين.
هناك دليل علمي على ما رمزت إليه نتائج الانتخابات، وواضح في تراجع «أحلاف الصفقات الاقتصادية والسياسية» من مستوى السيطرة على المجلس الحالي للنواب، إلى معدل لا يزيد عن ثلث الأعضاء بقليل… هذا مقابل ارتفاع عدد النواب المؤيّدين للمقاومة وأحلافها في القوى الوطنية المتنوّعة إلى معدل حاسم أو قريب منه.
أين المشكلة إذاً؟ إنها موجودة في الطابع الميثاقي للدولة.. الذي يُقصي مفهوم «الغُلب» ويتحاشاه، لتأمين الاستقرار الداخلي. باعتبار أنّ المكوّنات هي سياسية ومذهبية وطائفية في آن معاً، بما يؤدي إلى منع استبعاد التيارات الأقوى فيها. فحزب المستقبل السعودي الانتماء هو الأقوى سنياً. وهذا يعني أنه من المفضل أنّ يكون رئيس الحكومة منه، لتأمين ما يشبه الإجماع الداخلي. وينسحب الأمر نفسه على التيار الوطني الحرّ الأقوى بين المسيحيين إلى جانب حزب القوات اللبنانية الذي حقّق تطوراً ملحوظاً في عديد المقاعد التي حازها في الانتخابات الأخيرة. من دون نسيان حزب المردة وقوى الأرمن وبعض رموز الأقليات، وكيف يمكن تجاهل نجاح الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي حاز مقاعد نيابية متميّزاً عن سواه من القوى الوطنية التي لم تتمكّن من ذلك، وإذا كان الحريريون يمتلكون أكثرية، فهل يجوز تجاهل الاختراقات البنيوية التي حققها نجيب ميقاتي وفيصل كرامي وأسامة سعد وفؤاد مخزومي وعدنان طرابلسي في المدن الساحلية وجهاد الصمد وعبد الرحيم مراد في العمق وإبراهيم عازار في جزين والخازن في قلب كسروان وآخرون كثر.
أما لجهة المقاومة فحظيت بإجماع شعبي منحها كامل المقاعد التي تقدّمت إليها. فحزب الله وحليفته حركة أمل يُمسكان بعدد وافر من المقاعد النيابية. ويتحالفان مع أعداد موازية، بما يؤمن لهما المشاركة والمراقبة ورئاسة المجلس النيابي وعدداً كبيراً من الوزراء مع حلفائهما.
لذلك يمرّ لبنان اليوم في مرحلة إعادة تشكيل السلطتين التشريعية والتنفيذية في ظروف أفضل من ناحية أوضاع الإقليم والداخل اللبناني. فما هي خصوصيات إعادة التشكيل هذه؟
بداية يجب تأمين مشاركة أساسية من الطوائف والقوى كلهما.. وهل ضروري من الناحية المرحلية والوطنية للتخفيف من اللجوء إلى أساليب استحضار الفئتين الطائفية والشيعية ـ السنية والمشروع الفارسي وانتشار الحسينيات، التي يُطلقها المهزومون من أنصار السعودية عند كل ضائقة أو استحقاق. وهذا يتطلّب تمثيل التنوّعات السنية والشيعة والتعددية الدرزية والأرمن والأقليات والأحزاب الوطنية، وبذلك يتم إنتاج حكومة وطنية من عيار قوي ترعى الاستقرار الداخلي بضرب دابر الفساد عبر مراقبة متبادلة من القوى السياسية وبرعاية المقاومة والأحزاب الوطنية.
أما تأمين الموارد للإنفاق ولزوم تسديد الديون «الحريرية المنشأ» فمرتبطة بالتعجيل في استثمار النفط وتوفير مصادر عبر الطريق البرية إلى كل من سورية والأردن والعراق.
وذلك بالعودة إلى الأسلوب التاريخي بالاستيراد والتصدير وتشجيع المغتربين على الاستثمار في لبنان، بطريقة لا توحي بأنهم مجرد أرقام للزوم التوازنات الطائفية في فلسفة جبران باسيل الملتهبة.
وليس مطلوباً أنّ تتدخّل حكومة لبنان الجديدة في الدور الإقليمي لحزب الله كي لا تتسبّب بإزعاجات أميركية ـ سعودية، لا سيما وأنه ليس من نواتج إبداعاتها بقدر ما يعكس حاجة بنيوية للقضاء على الإرهاب في الإقليم الذي كان على وشك السيطرة على لبنان لولا القضاء المسبق عليه في الداخل والحدود.
إنّ مهمة هذه الحكومة هي الطلب أولاً، من المجتمع الدولي، إرغام «إسرائيل» على الانسحاب من مزارع شبعا والقرى السبع والغجر والجولان المحتل مع إعلان تمسكها بسلاح حزب الله حتى تسليح الجيش اللبناني لتتأهّل للدفاع عن الوطن وتحرير الأقسام المحتلة. وهذا حق قانوني وشرعي وتاريخي لدولة يمنعُها الغرب الأميركي من التسلّح فلا يُعطيها إياه ويحرمها من المصادر الأخرى، كروسيا وإيران.. كما تتمنّعُ بلدان الخليج من جهتها عن تمويل ما يحتاج إليه.
هذا هو الناتج السياسي الطبيعي والمنطقي لانتصار المقاومة في الإقليم والحدود، ربطاً بنتائج الانتخابات الحالية.. وإلا فإن حركات الاعتراض والعودة إلى المشاحنات المذهبية داخلياً، لن تثمر إلاّ عن تعطيل في حركة تشكيل حكومة جديدة تديرُ البلاد وتدفعُ بما تبقى من استقرار إلى الانهيار.
فهل يسمحُ الحلف الأميركي ـ السعودي للقوى اللبنانية المحسوبة عليه أنّ توافق على هذه التغييرات؟
تبني الدول سياساتها على أساس موازين القوى.. فعندما تعاكس مصالحها تدرس إمكانية التخريب عليها من الداخل والخارج. والواضح أنّ استعمال «الداخل»، أصبح احتمالاً ضعيفاً لتراجعاته، في الانتخابات.
أما لجهة استعمال الخارج الإسرائيلي، فهذه مسألة أضحت إقليمية الأبعاد وربما دولية قد تدفع الداخل المؤيد للخليج إلى انهيار حتمي… إنّ ما يحدث في الجولان حاضر أمام الجميع.. فها هي سورية الأسد وتحالفاتها، تطوّران مجابهاتهما لـ«إسرائيل» من صبر جلود إلى إطلاق قذائف إلى إسقاط طائرة إلى قصف بالصواريخ.. بما لا يسمح بأي مراهنة لقوى الداخل على أيّ انتصارات إسرائيلية وأميركية. الأمر الذي يشير إلى أنّ عصر المراهنة على تجديد أسلوب المقايضات الشفهية بين الدور الإقليمي والاستئثار بالمغانم في الداخل… ولّى إلى غير رجعة.. لذلك فإن المطلوب تشكيل حكومة إجماع وطني على مقاس خطورة المرحلة، تعتبران إنهاء الفسادين السياسي والاقتصادي مسؤولية مقدّسة تواكب دور حزب الله المستمر في الإقليم لجهتي مقاومة الإرهاب والعدو الإسرائيلي.