هل نحن عشية اندلاع حرب كونية؟

د. وفيق ابراهيم

الانسداد النسبي في العلاقات بين القوى العظمى يفجّر في العادة حروباً إقليمية محدودة، لكنّ الانسداد الكامل يؤسّس لحروب مفتوحة قد تتدحرج إلى كوارث.

هناك حالياً ملامح انسداد شبه كامل على خلفية إصرار أميركي على الاستمرار في «هصر» روسيا ونزع آخر ما تحتفظ به من دسامة سوفياتية، والوسائل هي المقاطعة والحصار وزرع حلف شمال الأطلسي «ناتو» عند حدودها مع أوكرانيا وتدمير حليفتها سورية، وإغراء إيران بالانسحاب من مواجهة الغرب. وبذلك تصبح روسيا أقلّ تأثيراً من أستونيا، بعد استكمال الطوق الأميركي حولها في شرق أوروبا والقوقاز وتركيا وآسيا الوسطى واليابان وكوريا الجنوبية، والاستثناء الوحيد هو الصين.

وللإشارة، فإنّ المقاطعة والحصار وخفض أسعار الطاقة، سياسات لا شكّ في أنها أضرت بالاقتصاد الروسي لكنها ليست مميتة لأنها استولدت تضامناً قومياً روسياً، أما أوكرانيا فإنّ رئيسها يوروشينكو الموالي للغرب ذهب بعيداً في استعداء روسيا ومهاجمة المناطق ذات الغالبية الروسية والانقضاض على كلّ ما هو مشترك معها: الأرثوذكسية والسلافية والتاريخ، مصرّاً على استيراد «ناتو» إلى حيث لا تستطيع موسكو أن تسامح، فهي قد تساوم على الكثير من التفاصيل إلا في خاصرتها الأكثر أهمية وهي أوكرانيا.

لذلك، استعادت روسيا جزيرة القرم، عرين بحر آزوف، ولن تسكت إلا بعد نيل الأقليات الروسية فيها استقلالها الذاتي بما يؤدي إلى خلق منطقة أوكرانية جاهزة موالية لها، فتسقط الأهمية الاستراتيجية الأوكرانية بالنسبة لـ«ناتو».

الجانب الآخر، من الإصرار الأميركي على السيطرة على «الإرث السوفياتي» هو سورية، حيث تقود أميركا مجموعة حروب مشتركة على أراضيها، وما أن تنكشف ورقة إرهاب تدعمه حتى تستبدلها بورقة إرهابية أخرى. تمنع تركيا وتسمح لـ«إسرائيل» بالتورّط في سورية، وتشجع الأردن على تأدية أدوار «سورية» وتهاجم إيران وحزب الله لدفاعهما عن النظام السوري.

إنّ مجمل التنظيمات الإرهابية في سورية، إنما دُعمت من أصدقاء أميركا الشرق أوسطيين والإقليميين، وكلّ ما تفعله واشنطن ليس أكثر من تبديل جلد الأفعى لأنّ مشروعها هو تدمير النظام السوري أي تدمير حليف لروسيا بحيث لا يعود لأساطيلها موطئ قدم شرقي المتوسط.

والمعروف أنّ بحر آزوف هو مقدمة سلسلة بحار متصلة تجعل موسكو دولة شرق أوسطية وهي بحار الأسود مرمرة، إيجه المتوسط، وطرطوس حيث الميناء الروسي الوحيد في كامل المنطقة، لذلك يبدو المشروع الأميركي بإسقاط نظام الرئيس الأسد بثلاثة أهداف: إراحة «إسرائيل»، طرد روسيا من الشرق الأوسط وكذلك من إيران.

طهران بدورها هدف أميركي كبير، لذلك جرى إدخالها في سياق تفاوضي لا ينتهي، يبدو وكأنّ الجزء النووي فيه هو أضعف حلقات النقاش لأنّ الطرفين الأميركي والإيراني مقتنعان بسلمية الملف لذلك يدور النقاش حول النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط والاصطفاف الإيراني الاستراتيجي في المنطقة، والمراد سحبها من أي اتجاه لعلاقات استراتيجية مع روسيا، عبر لعبة إطالة المفاوضات والاستمرار في حصار إيران حتى تختنق، بدورها، اقتصادياً.

هناك إذاً عمل أميركي جاد أدواته الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي و«إسرائيل» واليابان لمنع استعادة روسيا أهمية الاتحاد السوفياتي أو القليل منه، ويتضح أنّ المشكلة الروسية مع الغرب، ليست مسألة شيوعية وأيديولوجيات بل مسألة أحجام… هناك ذعر غربي تاريخي من روسيا الدولة العملاقة التي لم تتمكن الثقافة الأوروبية من استيعابها… فتمردت.

ويكفي النظر إلى خريطة روسيا ليتبين المرء أنّ حدودها مصنوعة بدقة لخدمة استيلاد دولة عظمى.. لها رأس في بحر قزوين وآخر على البحر الأسود وسلسلة بحار في شمالي العالم، فتربط بين ألاسكا الأميركية والدانمارك والسويد وأوروبا الشرقية والغربية وتركيا والصين والهند والشرق الأوسط.

يتبين بالاستنتاج أنّ المشروع الأميركي بهصر روسيا مستمر بوتيرة كبيرة ومفتوح على جبهات متعدّدة، في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية وصولاً إلى الانفتاح الأميركي على كوبا وقريباً على فنزويلا. إنها الحرب على الإرث السوفياتي المتواصلة سلماً.

والسؤال هو: هل تبقى المجابهة سلمية؟ وما هي فعل روسيا؟

تحتاط أميركا للأيام المقبلة فتصرّ على استنزاف الكرملين قبل إعادة التقاط أنفاسه فتهصره مجدّداً لعله يستسلم أو يختنق.

إنّ ردة الفعل الروسية تبدو هادئة حتى الآن إنما صارمة، فأوكرانيا ليست موضوعاً للمساومة بالنسبة إليها، وهناك حدّ أدنى مقبول تحاول المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند التوصل إليه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قاعدته إعطاء سكان شرقي أوكرانيا حكماً في إطار وحدة البلاد. هذا الحلّ هو الوحيد الذي يجنب المنطقة نزاعاً دولياً بين إصرارين أميركي يريد زرع «ناتو» قرب روسيا، وروسي يريد إنشاء منطقة أوكرانية حاجزة تضم أبناء جلدته الروس. وما يخفف من عمق الأزمة، وجود اعتدال أوروبي نسبي يحاول امتصاص الاندفاعة الأميركية التي قد تؤدي إلى حروب في أوروبا.

على الجبهة السورية تقف موسكو سداً في وجه الضغوط الأميركية، فتبدو الساحة السورية مجابهة مفتوحة بين حلفين: أميركي ـ أوروبي ـ خليجي ـ تركي ـ إسرائيلي، مقابل حلف روسي ـ إيراني، فالحرب مفتوحة والسجال والحلف الروسي ـ الإيراني متين لأنّ النظام السوري الذي يدعمانه هو الطرف الأقوى الممسك بالمبادرات العسكرية ولا يزال يوفّر حداً معقولاً من خدمات الدولة لمواطنيه.

يتبين أنّ أميركا تقفل الأبواب في وجه التسويات ولا تريد إلا استسلاماً فتتصرف وكأنها ربحت حروباً. هناك إذاً أمران مرفوضان روسياً وبكلّ المعايير: تحول أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، وسقوط سورية في سلة الغرب.

هذا هو الانسداد السياسي الذي يزيد من منسوب التخوف حول اندلاع أعمال حربية قد تؤسس على أكثر من جهة لحروب عالمية أكبر مسرحها أوكرانيا والشرق الأوسط.

أما المشاركون فيها فهم تركيا وإيران و«إسرائيل» وحزب الله وأوكرانيا والإرهاب والأردن، ودول الخليج والقسم الروسي من أوكرانيا وبعض أحلاف الاتحاد الأوروبي، بإشراف الراعيين الروسي والأميركي و«ناتو» إنما بمواقع مختلفة طبعاً.

فهل ينجو العالم من الاستحواذية الأميركية؟ وتحافظ روسيا على دسامتها السوفياتية؟ يحاول الاتحاد الأوروبي يحاول إيجاد تسويات، لكنّ المؤشرات تبقى سلبية والخشية أنّ تصبح مقدمة لحرب عالمية ثالثة. فهل ينتبه الأوروبيون والعرب؟ يأمل المراقبون بإجهاض الوجهة الأميركية المخيفة، فهي مشروع تدمير للإنسانية المعاصرة بنهم الصناعات الأميركية التي تكمل التهام ما تبقى من العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى