نهاية الأزمة السّورية… 2016 عام الانتصار
سومر منير صالح
متى ستنتهي الأزمة؟ هاجس يؤرق السّوريون، ومعه تكثر السيناريوهات وتتعاظم المخاوف، إنّه المجهول الذي يخشاه كلّ السّوريون، تكثر الأمنيات بخلاصٍ عاجلٍ «للأزمة» حسب التعبير الدّارج في سورية، ومع هذه الأمنيات تكثر التحليلات السّياسية والإعلامية، هنا لا بدّ من وقفة مع المشهد الأزموي في سورية وقراءته بمنظار إقليمي وجيو ـ استراتيجي ورؤية جيوبولتيكية للأحداث الدولية، فالأزمة السورية تخطت بعديها الداخلي والإقليمي، لتصبح منطلقاً لإعادة تشكيل النسق الدولي، وربما لاحقاً منطلقاً لإعادة هيكلة النظام الدولي… ومن الثابت القول بدايةً إنّ أجندات الدول الغربية قد تغيّرت وتبدّلت مع تصاعد مستويات الأزمة ومفاعيلها على المستويين الإقليمي والدولي، فمن مقولات إسقاط الدولة بداية العام 2011 إلى رغبة في الحوار مع بدايات العام 2015، فما الذي تبدّل؟ لنعد قليلاً إلى العام 2010 والذي حدّدت فيه الولايات المتحدة الأميركية استراتيجيتها لاستعادة الهيبة العسكرية بعد الفشل العسكري في العراق وأفغانستان، مؤكدة التزامها مجدداً بأمن «إسرائيل»، واستمرار تدفق النفط الخليجي بما يؤمّن استقرار أسعاره في السوق العالمية، وغابت عن تلك الإستراتيجية أيّ ملاح جوهرية لساحات أخرى كالمحيط الهادئ وبحر الصين وحتى روسيا، ومع هذه الاستراتيجية الأميركية الجديدة كان القرار برسم خارطة جديدة في «الشرق الأوسط»، تكون «إسرائيل» معها أكثر أمناً، عبر تحالف صهيو ـ أميركي مع تنظيم «الإخوان المسلمين» ينتجون معه أنظمة أكثر قرباً من «إسرائيل» وأشدّ عدائية مع محور المقاومة وخصوصاً إيران، فكانت البداية من تونس إلى ليبيا ومصر واليمن وصولاً إلى سورية وكان مقرّراً بعدها الجزائر والسودان، إلا أنّ تغيّراتٍ مهمة حدثت مع بداية العام 2012، انطلاقاً من الأزمة السورية والصمود الأسطوري للجيش والدولة، فكما كان مرسوماً للأحداث كان الرهان الغربي أن تسقط الدولة في أقلّ من 6 أشهر على الأكثر،إلا أنّ الصمود السوري شكّل علامةً فارقةً في إعادة ترتيب النسق الدولي مجدداً، مضافاً إليه الموقف الروسي والصيني الحازم في الأزمة السورية لصالح الدولة السورية، والذي تجسّد بفيتو مزدوج تكرّر أربع مرات دالاً على ثبات الموقف من سورية. هذان العاملان شكلا أول المؤشرات على إعادة ترتيب النسق الدولي مجدداً، وتوترت على إثرها العلاقات الدولية بعد العام 2012، وبدأت الولايات المتحدة تعيد تقييم الأزمة السورية بمنظور النتائج المتوقعة على الصعيد الدولي، ترافق هذا التقييم مع تغيّرات في الخريطة الاقتصادية الدولية عبر اكتشاف احتياطات هائلة من النفط الصخري داخل الولايات المتحدة وأوروبا بما يمكن الولايات المتحدة من تقليل الاعتمادية النفطية على الواردات من السعودية، وما كان ذلك يكلفها من مواقف سياسية باهظة الثمن لصالح اللاعقلانية السعودية في المنطقة، كما يمكّن هذا الاكتشاف النفطي أوروبا من التخلص من هاجس تدفق الطاقة من روسيا إلى دولها، هذا الاكتشاف النفطي أقلق روسيا أيضاً كونه يغيّر ملامح خريطة الطاقة العالمية، فبدأت روسيا تعيد النظر في استراتيجاتها وخصوصاً التجارية، وبدأت بتفعيل ممرّ القطب الشمالي، ودعمت ممرّ نيكاراغوا بديلاً عن بنما، ودعمت قناة كرا بديلاً عن ملقا، محاولة إيجاد ممرّات بحرية جديدة تنافس الممرّات البحرية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة الأميركية وتخلق فرص تنافس تجاري تعوّض النقص المتوقع في ميزانها التجاري حال تنفيذ استثمارات النفط الصخري في أوروبا.
هذا المشهد الجيبولتيكي قرأته الولايات المتحدة مع بدايات العام 2013، وهنا بدأت بإعادة صياغة استراتيجيتها على المستوى الدولي، ومعه قرّرت الاتجاه شرقاً مع تعاظم النفوذ الصيني في منطقة شرق آسيا، فكان لزاماً عليها أن تنسحب من أزمات «الشرق الأوسط»، وبما لا يسمح لأيّ قوة دولية من الاستفادة منه لمحاربة أميركا أو الإضرار بمصالحها، ويبقي أمن «إسرائيل» في مأمن، فكانت الاستراتيجية الأميركية الجديدة والتي تعتمد الحوار وسيلة لحلّ المشاكل مع التهديد بالعمل العسكري كأحد وسائل الضغط على الطرف الآخر، من هنا بدأت الولايات المتحدة الأميركية ترفع من حدّة خطابها تجاه سورية في ما يخصّ الملف الكيميائي السوري، والذي بلغ ذروته إلى حدّ التهديد العسكري المباشر، ولكن التدخل الروسي مستفيداً من الرغبة الأميركية في الحوار أفضى في النهاية إلى حلّ الأزمة سلمياً وانضمام سورية إلى اتفاقية «حظر الأسلحة الكيميائية»، هنا فهم المفاوض الإيراني أنّ السيناريو مشابه إما عمل عسكري يعقبه تفاوض أو تفاوض بشكل مباشر، فدخل في مفاوضات جديدة لإنهاء أزمة الملف النووي الإيراني، ومستفيداً من الرغبة الأميركية في إنجاز الاتفاق وما يحمله ذلك من إمكانية تقديم تنازلات غربية لصالح إيران… وهو ما بدأ عقب مؤتمر جنيف السوري نهاية العام 2013 وأنجز قبل بضعة أيام.
وتعززت حالة اليأس الأميركية تلك مع توقيع عقد عمريت البحري بين الحكومة السورية وشركة «سيوزنفتا غاز إيست ميد الروسية»، والذي أجهز على الأوهام الأميركية بالسيطرة على غاز ونفط شرق المتوسط، طبعاً حلفاء الولايات المتحدة الأميركية استشعروا الخطر الناجم من انسحاب الولايات المتحدة من «الشرق الأوسط»، وفي مقدّمهم دول الخليج و«إسرائيل»، وبقيت تركيا أكثر ارتياحاً نظراً إلى قدراتها الذاتية وموقعها وتاريخها في «الشرق الأوسط»، فعمدت المملكة السعودية إلى إغراق «الشرق الأوسط» بالأزمات على الأقلّ لتحسين قدرتها التفاوضية مع خصومها في «الشرق الأوسط»، فمنعت انتخاب رئيس لبناني، وأفشلت الحوار الليبي، وعبثت بالعراق وتونس، وفي مقابل ذلك أعادت المملكة السعودية بناء تحالفاتها بما يمنعها من الانهيار الناجم عن التخلي الأميركي عنها إذا ما تمّ، فكان إغداق الأموال على مصر لتحويلها إلى حام لها ولمصالحها، وكذا الأمر إلى الأردن، وعملت على خفض سعر النفط بما لا يسمح للولايات المتحدة بإنتاج النفط الصخري وبدأت بالعبث في أفغانستان…، هنا استشعرت الولايات المتحدة خطر المملكة السعودية على مصالحها، فكان قرار إضعافها تمهيداً لتفكيكها، فسمحت لها بالدخول في اليمن عسكرياً وهو ما سينهك المملكة الهشة أصلاً بانتظار خطوات أخرى تضعف المملكة وقد نشهد سيناريو ظهور «داعش» في مملكة آل سعود…
بالعودة إلى المشهد السوري نعيد ونقيّم الأحداث لنرسم صورة للمستقبل، الدولة السورية قوية والنقاش الدولي حول «إسقاط النظام» قد اندثر ابتداءً من منتصف العام 2013، والحليف الإيراني قوي وسيشهد الاقتصاد الإيراني قفزات نوعية من المفترض أن تنعكس على الداخل السوري إيجاباً، والحليف الروسي أكثر ارتياحاً بعد ثبات مواقعه في القرم وشرق أوكرانيا، والجيش العراقي يحسم معركته مع «داعش»، إضافة إلى أنّ الإرهاب بدأ يضرب أوروبا وهو ما دفع بوفودها البرلمانية إلى زيارة دمشق، تمهيداً للتنسيق الأمني مع الدولة السورية، فيما السعودي انشغل في اليمن والبحرين، وكلما ازداد تورّطه في اليمن خفّ الضغط عن سورية…
تكللت تلك المؤشرات الإيجابية بنجاح التجربة التفاوضية بين إيران والولايات المتحدة والتي قد تدفع أوباما ووزير خارجيته المتعطشين إلى حلّ سلميّ للأزمة السورية، إلى خطوة مشابهة، ومن هنا نقرأ التصريحات الأميركية المتكرّرة حول الرغبة في «التفاوض مع الأسد»، طبعاً حتى الآن لا توجد مؤشرات تفاوضية جدّية لأنّ المصالح الأميركية في المنطقة محلّ جدلٍ داخليّ أميركيّ، وهو ما سيحسم قريباً قبل العام 2016 عام انتهاء ولاية الرئيس أوباما، وحال إعادة ترتيب أولويات المصالح الأميركية في المنطقة سيبدأ التفاوض مع الأسد وحلفائه وخصوصاً حزب الله، لاعتبارين: أولهما لا مكان للحديث عن إسقاط الدولة السورية، وكون حزب الله أثبت أنه حليف بالدم والسلاح مع الدولة السورية، وثانيهما: سيبقى أمن «إسرائيل» في مأزق وجودي إذا لم تسوّ الأزمة السورية، ورسالة حزب الله إلى العالم أنّ قواعد الاشتباك مع «إسرائيل» قد تغيّرت وتسمح للحليفين بنقل المعركة إلى داخل دولة الاحتلال، إذا ما استمرّ الدعم «الإسرائيلي» والأميركي للتنظيمات الإرهابية، أو إذا ارتكب نتينياهو حماقة عسكرية على الجبهة الشمالية، مما دفع أوباما إلى تغيير خياراته تجاه «إسرائيل» بقوله إنّ أمن «إسرائيل « يتحقق بالسلام… ولا سلام من دون سورية، ولا حرب بدون حزب الله، هذه حقيقة الصراع الجديدة مع «إسرائيل»، لذلك وضمن هذه الرؤية من المتوقع أن تنتقل الولايات المتحدة إلى التفاوض مع الدولة السورية ومعها حليف الدم والمصير حزب الله على ملفات في «الشرق الأوسط»، قبل نهاية العام الجاري، ليكون عام 2016 عام الانتصارات على «داعش والنصرة» الإرهابيتين لأنّ أولى ثمرات مثل هذا التفاوض هو تطبيق القرارين 2170 و 2178، وبمباركة أوروبا الخائفة أصلاً على أمنها من عودة الإرهابيين إليها، فمستقبل أمنها يرتبط جزئياً بتنسيقها الأمني مع دمشق، وهو أمر لن يقدّم مجاناً أو لمجرّد عودة وفود ديبلوماسية إلى دمشق، فتلك قضية لا تجد لها مكانة بارزة لدى العاصمة السورية، والتي أعادت بناء سياستها الخارجية على الوقائع والمصالح، واستفادت من تجربة المأساة السورية… وريثما يتمّ التحضير لسيناريو الحوار ستعمل كلّ القوى المتورّطة بالأزمة السورية على تدعيم مواقعها التفاوضية، من هنا نشهد توتراً على جبهات متعدّدة كالجنوب وإدلب، ولكن الثابت أنّ المتآمرين يعلمون أنّ الأسد قد انتصر، وأن لا مكان لهم في مرحلة ما بعد انتصار الأسد، وهو ما ستيثبته المستقبل القريب…
باحث بدرجة الدكتوراه في الدّراسات السّياسية