جارية من الولادة حتى الممات
منذ طفولتها وهي تشعر أنّها كائن غير مرغوب فيه. والدها يوزّع ابتساماته المجّانية على ابنه، يلعب معه، يسايره، يحادثه. كيف لا؟ وهو الذي اقترن اسمه بِاسم ابنه، فبات يزهو كلّما تناهى إلى مسامعه صوت من يناديه «أبا مجد»، فهو أيضاً من سيحمل اسم «العائلة الكريمة»!
كثيراً ما تساءَلَت: أليست هي الكبيرة؟ ولها الحقّ في أن تنال هذا الشرف؟ حاولت كثيراً أن تعرف ما الذي يميّز أخاها عنها، فهي أشطر، وأذكى، وهي الأكبر.
كبرت قليلاً، فإذ بكلّ ما نهوها عنه مباحٌ لأخيها. يستطيع أن يخرج ويعود متى شاء، لا أحد يسأله أين كنتَ ولماذا تأخرت. هو المدلّل وهو «الرجل»، يستطيع أن يفعل ما يريد.
كبرت أكثر، وذاقت طعم الأوامر أكثر. لم تكن تستطيع أن تنتفض على خضوعها وهي ترى أن أمّها خانعة لأبيها، وزوجة عمّها لعمّها، وكل ما يحيط بها يقول لها أن الرجل هو السيد وهو الآمر والناهي. قالوا لها إنّ العادات والتقاليد تفرض هذا، وأن عليها أن تطيع وإلا ستكون فتاة «بلا أخلاق». لهذا، حينما وصلت إلى المرحلة الدراسية الثانوية، أخرجها والدها من المدرسة بحجة أن شهادة الفتاة بترتيبها وعدد طبخاتها، ولا يهمّ أبداً أنها مجتهدة ومن الأوائل دراسياً. كم حاولت أن تقاوم، بكت وتضرّعت إلى أمّها أن تقنع والدها ولكن الأمّ نفسها موافقة على تصرّف الأب.
وهكذا، حُرمت من الدراسة وبقيت حبيسة المنزل لا تخرج إلا مع والدتها ليكون نصيبها من زيارات النساء السخيفة، أن تشهد المزيد من الاستسلام المرسوم على وجوههنّ.
لم تعرف الحبّ في حياتها، فهي لم تشعر يوماً أن أمّها تحبّها كما تحبّ أخاها، أو أن والدها سعيدٌ بوجودها بينهم.
أما العشق، فكيف تعرفه وهي محرومة من الخروج أو حتى الوقوف في شرفة البيت. لذا، كانت تقتل مشاعر الأنثى التي تفاجئها أحياناً في مهدها. وكثيراً ما تساءلت ما هذا الشعور الذي ينتابها، لكنّها كانت تخاف أن تسترسل. فقد علّموها أن ذلك «حرام»، وأنها «نصف إنسانة»، وأنّها «خُلِقتْ تابعة لرجل»، وهذا اليوم يزفّها هذا الرجل إلى عريس مباغت يبلغ من العمر خمساً وأربعين سنة في حين أنها لم تبلغ بعد العشرين.
وافق والدها لما يتمتع به العريس من صفات رائعة أهمّها أنّه يملك في البنوك أموالاً طائلة، وأنّه سيدفع له مهراً كبيراً جداً، رغم أنّه متزوج وعمره ضعف عمرها، وأنّ لديه أولاداً في مثل عمرها، فهذا لا يعيبه أبداً كرجل. لم يسألوها حتى إن كانت موافقة أن تُباع لهذا لرجل. وهكذا، ألبسوها ثوب عرسها، لا بل كفنها، وأرسلوها إلى زوجها أو مغتصبها ـ لا فرق ـ ولأنّ الفتاة في مثل هذه الليلة تُصبح امرأة تحت وصاية جديدة لرجل جديد، فلن يتغيّر الحدث. ما تغيّر جهة إصدار الأوامر. حصل هذا كلّه في تلك الليلة السوداء، لا فرق بين من اغتصب طفولَتها ومن اغتصب زهوة شبابها. دموعها حينما كانت صغيرة لم تشفع لها أمام والدها، وكذلك دموعها اليوم وهي امرأة لن تشفع لها أمام مغتصبها الذي يُدعى زوجها!
في ذلك المساء، مسحت دموعها ونظرت إلى من زوّجوها إياه في سريره. يشخر مبتسماً من فتوحاته الجديدة، لبست فستاناً أبيض، أفردت لليل شعرها الأسود، ووقفت على شرفة سجّانها. للمرّة الأولى تستنشق هواء الحرّية، ابتسمت ونظرت إلى السماء. فتحت يديها عالياً واتّخذت للمرّة الأولى في حياتها قراراً، وقفزت معلنةً انسحابها من الحياة.
فيليبا صرّاف