«الهلال الشيعي» و«البدر الوهّابي» بين الدين والسياسة…

محمّد ح. الحاج

في مقال الأسبوع الماضي «الهلال السوري الخصيب بين «هلال شيعي» و«بدر وهابي»، تحدثت عن أطماع آل سعود في بلاد الشام عبر قرنين من الزمن، وأهدافهم الملتزمة خدمة الصهيونية العالمية وهي الوجه السافر للماسونية العالمية وهم من أتباعها، تبعاً لاعتناقهم أحد المذاهب المتفرعة عنها أي المذهب الوهابي، وهناك عشرات الأبحاث والقرائن على أنها كذلك، وأن آل سعود ومنذ الثلث الأول للقرن الثامن عشر ركبوا موجتها واتخذوا من فتاواها ذريعة لهم في التسلط على الدين وغزو القبائل والعشائر العربية ونهب ثرواتها في عملية التحضير لغزو بلاد الشام وهذا ما فعلوه لاحقاً.

تتوسّل الصهيونية العالمية بسائر فروعها جميع الأساليب والطرائق المؤدية إلى تحقيق أغراضها، ولا تتورع عن استخدام الآخرين في حروبها، بل تطبق ذلك على أرض الواقع، وما من حرب عالمية قامت إلاّ وجنى غلاة اليهود الصهاينة مكاسبها، وبما أن العقائد الدينية والمذاهب هي «أفيون الشعوب» ولها حساسيتها المفرطة في العالم المتخلف، وبعدما تجاوزت أوروبا معظم بلدان العالم غيبوبة المخدر الديني، وبعد تحقيق اليهود أولى خطوات الحلم التلمودي على الأرض المشرقية، كان لا بد لمنظماتهم العاملة في العالم كله من استثمار واسع في هذا المجال، إذ أن غيبوبة المخدر الديني ما زالت فاعلة في عالمنا المتخلّف، وهناك الملايين من الذين أمكن إيقاظهم ليخرجوا من كهوفهم ويعيثوا في الأرض فساداً مثلما يحصل اليوم.

ليس في الإسلام سنّة أو شيعة هذه مسميات دخلت أو أدخلت على التدوين التاريخي بل إن الإسلام انقسم زمن الخلافة الراشدية الرابعة شيعتين، الأولى هاشمية أو «علوية» نسبة إلى الإمام علي كرم الله وجهه، والثانية شيعة أموية نسبة لمعاوية ر وهو من خرج على الخلافة ودعا إلى بيعته في الشام، وما كان الخلاف على أركان أو سنن الدين أو فرائضه، بل هي السياسة والحكم بين طرف يمثل رأس المال والتجار وعائلات قريش الكبرى، وطرف من العائلة أبناء عمومة يمثل الفقه والفقر ويعمل لوجه الدعوة والعدالة الاجتماعية ويذكر التاريخ لقبه المشهور «أبا تراب»… وما عدا ذلك ضرب من المبالغة وإعمال الدعاوة لزيادة الشرخ، إلى أن وصلنا بعد قرن ونصف قرن إلى حال من التمزّق والعداء لا يصحّ وصمها إلاّ بجاهلية ما قبل التاريخ، إذ لم يأكل الإنسان لحم أخيه إلاّ في ذلك الزمن، ويتكرّر هذا الفعل في الألفية الحادية والعشرين، زمن غزو الأمم الأخرى الفضاء وإقامة المستعمرات، ويتجاهل القوم قول سعاده: «إن اقتتالنا على السماء يفقدنا الأرض».

استثمار مسمّى الشيعة والسنة ليس حديثاً في عالم السياسة، إذ تبنّى الفرس المسمّى الأول، وتبنّى العثمانيون المسمّى الثاني، ومعلوم أنهما كانتا القوتين الأكبر في المنطقة المشرقية، وأن صراعهما كان على النفوذ والسلطة، وما كان للأعراب إلا دور التابع، في حين كافح السوريون على مدى قرون للحفاظ على استقلالية بين الطرفين، ليس إنكاراً للدين أو بعداً عنه، إذ كان الإيمان السوري الأكثر اعتدالاً وتسامحاً ورسوخاً في العقيدة بعيداً عن السياسة أو على هامشها. ويقول سعاده إن سورية اتجهت إلى التمسك بالسنة كي لا تخضع للفرس، رغم أن غالبية السوريين في جميع كياناتهم وقفت إلى جانب بني هاشم. ثم إن الاعتدال السوري الإيماني برّر للسوريين وقوفهم ضدّ الدولة العثمانية السنية التي دفعت بالإسلام إلى مجاهل التخلّف… إذ لم تكن للدين علاقة بالثورات أو الحروب كافة التي قامت، حتى ما اعتبره المؤرخون بين السنّة والشيعة، بل هي حروب سياسية غايتها التحرر من نفوذ إحدى القوتين أو كلتيهما معاً على قاعدة الحفاظ على الشخصية الوطنية القومية والوجود من الذوبان في الآخر الذي لم يدخر جهداً في هذا السياق، وعمليات التتريك ما زالت ماثلة في الأذهان، وبدلاً من الحفاظ على عروبة الكتاب إنا أنزلناه قرآنا عربياً… تمّ تحويله إلى التركية، واستبدل الحرف العربي باللاتيني إمعاناً في محاربة الثقافة العربية.

من المؤسف أنّ أول من طرح مقولة «الهلال الشيعي» وحركة التشيّع في العالم العربي بعد الثورة الإيرانية كان رئيس مصر حسني مبارك، ولم يعرف عنه تمسكه بالدين أو انتصاره للإسلام، وكان يلاحق «الإخوان المسلمين» لإدراكه أنهم منافسوه الأشداء على الحكم، وكان معظم قادتهم يقبعون في السجون المصرية ومنهم من ورثه لفترة وجيزة محمد مرسي العياط ، ثم سقط هو وتنظيمه. المؤكد أنّ مبارك لم يثر هذا الأمر إلاّ بناء على طلب الحكومة العالمية السرّية، ودليل ذلك أنّ من تلاه في إثارة هذا الموضوع كان عبد الله بن الحسين ملك الأردن، وهو كما يقال سليل أسرة تمتدّ إلى بني هاشم وينطبق عليه القول إنه شيعي في وجه من الوجوه. وبغض النظر عن ذلك فإنّ الدافع المؤكد هو التزامه بالعمل الوظيفي، مثل حسني مبارك، ليس خدمة للدين، ولا حرصاً على المذهب إنما لإيقاظ فتنة مطلوبة تخدم المصالح الصهيو ماسونية، فالشارع الهمجي المتخلّف يصل إلى قمة الإثارة في هذه الحالة يلاحظ أن لا أحد يتحدث عن التغلغل الوهابي في العالمين العربي والإسلامي رغم أسبقيته عملية تخدير تام للعقلانية والتفكير وعدم تبصر بالنتائج انطلاق للغرائز المتوحشة في عمليات القتل والتخريب وتمزيق للمجتمعات والأوطان، وهي خطة الماسوني الخبيث كيسنجر التي اقترحها على الإدارة الأميركية بحيث لا تخسر الجنود ولا حتى الأموال، فهناك من يقوم بالتمويل من أتباع المحافل المشرقية، كما يوفر سوقاً رائجة لبيع السلاح. ويؤكد للجميع أن العملية برمتها تخدم المشروع الصهيوني في المنطقة قول رئيس الأركان الصهيوني: «أن تقتل عدوك بيدك فأنت تشعر باللذة، لكنك تشعر بلذة أكبر عندما يقتل نفسه بيده». هذا معناه أن عمليات القتل التي ترتكبها العصابات التي تسمي نفسها « جهادية « إنما تخدم العدو بطريقة مباشرة، تحت شعارات زائفة، صمّمت بناء على تجارب ودراسات وخبرة وتحضير واجهات مناسبة على أنها قيادات وطنية وهي في حقيقتها صهيونية الهوى والوظيفة بحكم التبعية والتمويل.

الخريطة التي أصدرتها «داعش» والتي تشكل ما يعتبرونه فاصلاً أو كسراً لـ«الهلال الشيعي» المزعوم بما أسموه «البدر السني» هو في الحقيقة تجسيد للخريطة المنشورة على صفحات البنتاغون الأميركي غايتها قطع الطريق على تواصل الخط المقاوم للمشروع الصهيوني من طهران عبر بغداد والشام إلى بيروت، باعتباره الخطر الأكبر والوحيد المتبقي في وجه استكمال المشروع، وأيضاً لتحقيق التجزئة الجديدة وإلغاء اسم سورية عن الخريطة بإقامة دويلات «سنيستان» و«شيعستان» و«غربستان» و«شرقستان»، و«كوردستان»، وهو التمهيد لاعتراف قسري بيهودية الدولة على أرض فلسطين، على القاعدة نفسها التي قامت عليها دول المذاهب والأديان والأعراق. وتبقى سورية الأحجية العصية على التصريف إذ لم تلق دعاوة دولة «غربستان» للعلويين والأقليات قبولاً في أي من أوساط السوريين.

أوروبا، وكثير من بقاع العالم المتقدم، مزقتها في الماضي الحروب الدينية والمذهبية، ولم تخرج منها إلاّ بعدما سادت النظرية القومية الضيقة مبدئياً، ثم ارتقت على قاعدة المصالح وتطورها من نظرية قومية ضيقة فرنسية ألمانية إيطالية إنكليزية… إلخ نظريات منتشيني وإيفانوف – إلى القومية أكبر… الأوروبية – فكانت لها سياستها الموحدة وعملتها وسوقها. وهكذا بلغت مرحلة تكوين الأمة موحدة المصالح في البيئة الواحدة نظرية رينان وهي تتجه إلى التوسع في أوروبا الشرقية لتنافس أكبر التجمعات في العالم لناحية التطور العلمي والرفاهية. وأكاد أحلم بأن مجتمعاتنا المشرقية والعربية ستكون قادرة على الخروج من قوقعة التخلف التاريخي إلى مرحلة العصبية القومية الأولية، لتنطلق إلى اتحاد مصالحها الكبرى على قاعدة قومية أشمل متجاوزة عصبية الدين والمذاهب والأعراق غير تاركة أو ملحدة ، أن تنطلق من عقال الهويات البالية الضيقة إلى رحاب الهوية الوطنية الجامعة… هل نحتاج إلى قرن آخر، أم نستمر في ركوب الهاوية حتى الحضيض والاندثار؟

هامش: تردّد في وسائل الإعلام أنّ الرئيس المصري المشير عبد الفتاح السيسي أمر بإلغاء مادة التربية الإسلامية من المناهج التعليمية واستبدالها بكتاب الأخلاق والقيم. وأرى أنها خطوة على الطريق الصحيح، وكنا طرحنا استبدال هذه المادة التدريسية في مناهجنا بكتاب تحت عنوان «التربية ومكارم الأخلاق» يضم بين طياته مُثل الحق والخير والجمال من جميع المعتقدات الدينية، وقلنا إنّ ذلك خطوة على طريق توحيد المفاهيم الاجتماعية وإسقاط الحواجز بين مكوّنات أمتنا، لكن الذين في يدهم القرار رفعوا في وجهنا البطاقة الحمراء مدفوعين بتعصّبهم الأعمى وجاهليتهم ليستمرّوا عثرة كأداء في وجه الانطلاق نحو وحدة المجتمع والارتقاء إلى مصاف الأمم المتحضّرة…

لن نيأس. نرفع الصوت ثانية وثالثة، ونطالب، فليس لغيرنا أن يسبقنا ونكون من المقلدين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى