العثمانيون في لبنان… مجدّداً

د.وفيق إبراهيم

يروي التاريخ انّ العثمانيين رحلوا عن المنطقة العربية في عشرينيات القرن الماضي بعد أربعة قرون من احتلال سفكوا فيها دماء ملايين البشر تاركين مجتمعات ضعيفة متهالكة، لم يميّزوا فيها بين الانتماءات الدينية أو العرقية لأبنائها.

كانت القاعدة السائدة هي الولاء والخضوع للسلاطين بشكل خاص والأتراك بشكل عام، أما الشعوب المنضوية في إطار دولتهم فليسوا أكثر من عبيد يعملون من أجل ازدهار الدولة، عودوا الى السفر برلك والقتل الجماعي الذي لم يُفرّق بين مسلم ومسيحي أو سني وشيعي ودرزي.

لقد شمل القتل التركي بلاد الشام ومصر والعراق وجزيرة العرب ومجمل المناطق مستجلباً ضدّهم انتفاضات محلية، كانت تجد نفسها مضطرة للاستقواء بالأجنبي.

أما مناسبة العودة الى هذه المرحلة، فهي الردود على خطاب تقليدي للرئيس ميشال عون، عرض فيه مراحل تطوّر لبنان، ذاكراً ما أسماه «إرهاب الدولة العثمانية»، وهو على حق بذلك. فأقام هذا التعبير قائمة جهات لبنانية متعدّدة منها من يرتبط بالاخوان المسلمين، وآخرين يعتقدون انّ السنة اللبنانيين هم جزء تاريخي من العثمانية القديمة.

وبذلك يرتكبون أخطاء جسيمة في حركات تحرر قديمة شنّها مصريون على العثمانيين وهم من أهل السنة، وعراقيون وهم أيضاً من أهل السنة والشيعة وسوريون من السنة بيتر شهاب والدروز والمسيحيين والشيعة.

فهل يمكن تجاهل الحركة العسكرية الكبيرة التي قادها الهاشميون في الحجاز بتنسيق مع البريطانيين ضدّ العثمانيين، وأدّت الى طردهم من مكة والحجاز، وكذلك الهجوم التركي بواسطة محمود علي باشا على تمرّد عشيرة آل سعود في القرن 19، وكامل هؤلاء كانوا من أهل السنة.

لذلك لا بدّ من تأكيد انّ المنطقة العربية التي كانت خاضعة للاحتلال التركي ثارت عليه على أساس خطين: وطني أو قومي، وقاعدتهما هم من أهل الغالبية في المنطقة أيّ السنة، فكيف يمكن لزوايا سياسية لبنانية الدفاع عن المرحلة العثمانية القديمة؟

لجهة الاخوان المسلمين، أصحاب مشروع الدولة الدينية، فتأييدهم للعثمانيين متواصل على قاعدة التحالف مع حزب العدالة والتنمية التركي الذي يشكل فرعاً من فروع الأخوان، فاسم الرئيس أردوغان بالنسبة اليهم، هو قائد أممي إسلامي، تستوجب الطاعة له متجاوزين بذلك خطوط دولهم الوطنية.

كما انّ داعش والقاعدة والنصرة ترى في الدولة العثمانية، حنيناً الى دولة دينية تعادي الطوائف والمذاهب الأخرى على الطريقة العثمانية القديمة، وهذا ما فعله الإرهاب في سورية والعراق بإبادته الأقليات الدينية والمعترضين على نهجه من أهل السنة وهم الغالبية.

فكيف تجيز بعض القيادات الدينية اللبنانية لنفسها أيضاً انتقاد ما ورد في خطاب الرئيس عون حول الإرهاب العثماني، فقد يفهمه اللبنانيون الآخرون وبينهم كثير من السنة، دعوة إلى تجديد الإرهاب التركي وإحياء الدولة التي تستعمل الدين وسيلة لقمع الشعوب؟

وكيف يسمح سياسيون مدنيون لبنانيون لأنفسهم بالهجوم على الرئيس عون للأسباب نفسها، فيما كان من المفترض بهم تأييد الدولة المدنية أو دولة التوازن الطائفي بأقلّ تقدير؟

ألم يكن من الأجدر لو انتفضت كرامة هؤلاء السياسيين لتهويد القدس واستملاك المسجد الأقصى ومحاولة هدمه للتفتيش عن هيكل سليمان المزعوم؟

وماذا عن المسجد الابراهيمي في الخليل الذي اجتاحه منذ يومين رئيس وزراء «إسرائيل» نتنياهو مع فرقة عسكرية ـ سياسية وسط صمت عربي وإسلامي كامل، لم يصل حتى الى مستوى الانتقاد والعتب؟

هناك إضافة تسأل حتى عن العلاقة بين الإسلام والعثمانيين؟

فهل طبّق العثمانيون في دولتهم مفاهيم الاسلام؟

أسّسوا حكماً وراثياً، وهذا ليس من الإسلام، ولم يعتمدوا مجلس شورى، وهذا أيضاً ليس من الإسلام، مسجلين أكبر مرحلة سحق وقتل في التاريخ شملت المسلمين بكافة مذاهبهم والمسيحيين، تاركين للغرب فكرة الربط بين المجازر والإسلام، وبينه وبين كره الآخر والتخلف والتمسك بالتقليد.

على المستوى الحالي، هناك أربع دول عربية أساسية معظمها مجاور لتركيا، تناصبها العداء بشكل مطلق، وإلا فما حكاية مصر معها، فلو كانت الدولة العثمانية، مقبولة عند العرب، لما ناصبتها مصر العداء منذ استقلالها عن البريطانيين وحتى الآن، مروراً بالمرحلة الناصرية التي نسجت علاقات سيئة مع تركيا.

وكذلك العراق المجاور لها، لم يهادنها في كلّ المراحل السابقة وحتى الآن.

أما سورية فتعتبر تركيا دولة معادية تحتلّ الاسكندرون ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي وعفرين وإدلب وضواحي حلب وحماة وبعض أنحاء الحدود منذ ثماني سنوات، فهل يعلم هؤلاء القادة من سياسيين ورجال دين أنّ السياسيين المصريين والعراقيين والسوريين هم من أهل السنة، الذين رفضوا السياسة التركية الحالية وأصولها العثمانية؟

فهل تختلف السياسة في لبنان عنها في الجوار العربي؟

ضعف الدولة اللبنانية لا نظير له في المنطقة، بشكل تحتمي فيه القوى السياسية بالخارج والدين، وحتى تصبح معتمدة في الخارج فإن عليها تأييده كيف ما اتجه، لكن مؤيدي العثمانية في لبنان ينسون انّ السعودية الوهابية نفسها تعادي تركيا، فماذا هم فاعلون أمام هذه الإشكالية؟

لا شك في أنهم يبرّرون لأولياء الأمور السعوديين انّ دفاعهم هو عن الدين وليس عن السياسة الإقليمية التركية، وبذلك يكسبون الطرفين معاً أيّ رضى السلطان التركي، وولي الأمر السعودي، فيما يبدو انّ الخاسر الوحيد في هذه المعضلة هو لبنان وسيادته وكامل فئاته.

إلا أنّ ما هو مؤكد أنّ هؤلاء السياسيين والزوايا الدينية ليسوا إلا نفراً قليلاً من لبنانيين من كلّ الطوائف يجزمون بأنّ الدولة العثمانية هي أكثر من دولة إرهاب تعمل حالياً على نسج لبوس جديد لها مرفوض بشكل كامل في لبنان والمنطقة وعند كلّ الطوائف وأولهم أهل السنة والجماعة على مستوى المنطقة العربية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى