أولى

خرافات لبنانيّة دائمة
لا تزال تنكر الحقائق

} د. وفيق إبراهيم

تحتاج الدول في مراحل تأسيسها إلى كمية من مرويات تجمع بين التاريخ الفعليّ والخرافات المصطنعة للعثور على قواسم مشتركة قديمة تجمع بين أبنائها.

لبنان بمفرده أطلق أدباؤه وفنانوه وعلماؤه ومغتربوه شحنات هائلة من حكايات عجائز زعموا أنها تاريخ فعلي لوطن موجود قبل خمسة آلاف عام!

لم يكتفوا بذلك، بل حوّلوه الى ثقافة مدرسيّة اجتاحت زوايا لبنان وقدّموه على أنه معجزة عصره ومختلف عن المنطقة ولا علاقة له قط بجواره، نافين أي انتماء له بسورية، إلا أن الأمر انكشف من خلال العجائز من أبناء جبل لبنان الذين كانوا يحتفظون للذكرى وحتى سبعينيات القرن الماضي بهويات صادرة عن الاحتلال العثماني تنسب أصحابها الى منطقة جبل لبنان سورية.

لكن الثقافة الانعزاليّة كانت في ذلك الوقت ضرورية لتبرير ولادة لبنان. ما جابه هذا التوجه، صعود الدور الفلسطيني في لبنان وسلسلة الاجتياحات الاسرائيلية والغربية الأميركية، مع بدء تشكل المقاومة اللبنانية، فتبعثرت ثقافة الدولة الانعزالية وانكفأت الطوائف الى معطياتها التاريخية الموجودة دائماً، لكنها كانت تكمن خلف ثقافة الدولة، بيد أنها مع الوهن الذي أصيبت به، أطلقت ثقافاتها الخاصة وطمست على كل ما هو مشترك، فلم يعُد اللبناني يعرف من أين أتى، من كربلاء او صحراء نجد وهل هو على علاقة فعلية بأفلاطون وسقراط او كان أسلافه مرافقين للقديسين والرسل والأولياء، حتى أن كل طائفة ربطت حركتها التاريخية بالتفاعلات الدينية للمنطقة والعالم بأسره بخلفيات أساطير وخرافات لا يقبضها حتى البسطاء.

هذا الأمر مستمر، ويمنع تشكيل دولة فعلية لها خلفيات تأسيسية فعلية.

فلبنان لم يكافح للتحرّر من الفرنسيين بل كان من صنيعتهم التي أرادت تفتيت سورية لإلغاء مصادر قوتها، فبدلاً من سواحلها التي كانت تمتد من حدود الاسكندرون مع تركيا العثمانية وحتى قناة السويس مع مصر بما فيها صحراء سيناء، انتزع لبنان قسماً منها وكذلك فلسطينإسرائيل المحتلة وتركيا.

والتهم الإنجليز سيناء وسواحلها من الأتراك وتركوها للمصريين.

تقود هذه المعلومات الى التركيز على دور حزب الله في بناء خلفيّة تاريخيّة حقيقيّة للبنان الخرافي هذا.

هذا الحزب مارس أكبر عمليات جهاد بمفعول رجعي في تاريخ المنطقة ابتدأت منذ 1982 حتى 2006 وجددها منذ 2011 ولا تزال متواصلة متمكناً بواسطتها من إمداد وطنه بأسس قوية للتصدي للأعداء ومجابهتهم وهذه سمات كانت غائبة تماماً.

هنا نجح حزب الله بوضع بلد كلبنان على الخريطة الفعلية للدول في بلاد الشام والشرق الاوسط موفراً له مناعة اجتماعية من خلال تصديه للإرهاب وإلحاق هزيمة نوعية كبيرة به جعلته يتراجع الى مواقع الأوكار في الطوائف وليس في صدارتها كما كان يفعل في بدايات 2011.

إلا أن كل هذه الأعمال البطولية لم تشكل بنظر الوزير السابق وليد جنبلاط أفعالاً تجذبه ويشعر من خلالها أن الخطر على طوائف الأقليات تراجع بسببها وليس بنظريات وليد جنبلاط.

هذا الأمر ينطبق على جعجع الذي لا يزال يرى في حزب الله إلا أنه حليف لإيران، ما يجعل الكثير من اللبنانيين يسألون «الحكيم» اذا كان يقبل بتسلم الحزب لدولة لبنان التي حرّرها ولا يزال يدافع عنها إذا قطع علاقته بإيران؟

هذا يسري على الكتائب والمستقبل وريفي وقوى الكهنوت والإفتاء

الى ان يكتشف الجميع أن طوائف لبنان مجموعات مستقلة لم تندمج حتى الآن وتعتبر الدولة آلية لتحقيق النفوذ كما أن تموضعاتها الإقليمية والدولية هي التي تحمي استقلاليتها الكاملة في الداخل اللبناني وحروبها الداخلية. فما هو غريب في بلدان العالم يصبح طبيعياً في لبنان، فها هو أحد رجال الدين يقول على شاشة التلفزيون إن البطريرك الراعي كلفه إبلاغ الرئيس ميشال عون بعدم إقالة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كذلك فإن أحد المفتين قال علناً إن فؤاد السنيورة خط شديد الاحمرار.

حزب الله هو اذاً من زوّد لبنان بالعناصر الاساسية لنشوء الدول، وهذا لا يُرضي معظم الطوائف بما فيها الإسلامية وبعض الشيعة.

وفي منطقة ملأى بالتحالفات والاستتباعات والولاءات يعترض جعجع والحريري والكتائب وجنبلاط على قول جنرال إيراني بأن الصواريخ في غزة ولبنان هي في وجه العدو الإسرائيلي. ويقبلون بذهاب مئات الوزراء والنواب والسياسيين اللبنانيين الى السفارة الأميركية لتقديم معلومات. بذلك يتأكد أن الصراع الداخلي في لبنان مندلع بين تيار يعمل على بناء لبنان بمفهوم الدولة المتماسكة وتيار آخر يصرّ على البقاء في منزلة أهل السفارة.

لا بد هنا من الاشارة الى ان تفاعلات التاريخ قد تتأخر حيناً لكنها لا تحتجب نهائياً، ويبدو ان مرحلة 1982 وصعوداً حتى الآن هي المرحلة الفعلية لتأسيس دولة لبنان على أساس وطني لاطائفي وهذا ما يريده حزب الله وحلفاؤه من الأحزاب الوطنية مواصلين العمل على تثبيته.

هذه اذاً مراحل لا بدّ منها، حتى لو طال أمد تنفيذها، فلبنان الوطني المرتبط بجواره السوريالعربي لم يعُد بعيداً وملامحه بدأت بالتشكل في الأفق القريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى