الوطن

يقظة شعب وخريف نظام…

} د. عدنان نجيب الدين*

انّ معظم السياسيين اللبنانيين، برغم كلّ مظاهر التحضّر والمدنية التي يحاولون الحرص عليها، وبرغم شهاداتهم الجامعية التي يزيّنون بها جدران بيوتهم أو مكاتبهم، وبرغم كلّ اللغات التي يتقنونها، وبرغم ياقات العنق الفاخرة التي يلبسونها والثياب الـ signé التي يتباهون بها، والسيارات الفخمة التي يستقلونها، والقصور المزخرفة التي يسكنونها، وكلها تمّ شراؤها ببعض المال الذي سرقوه من مدّخرات الشعب الذي نهبوه من ودائعه أو أهدروه من مشاريع نفذت بكلفة أعلى من حقيقتها، أو من سمسرات غير مشروعة، إلا أنهم ما زالوا يعيشون في أعماقهم عقلية الإنسان البدائي وتوحّشه السياسي، حيث الجهل الذي يدفعهم إلى اعتبار أنفسهم زعماء قبائل لا سياسيين، فالسياسة علم وفن إدارة مصالح الناس وشؤونهم لتأمين الحياة الفضلى لشعب انتخبهم وأناط بهم مسؤولية الحكم.

نعم كثير من اللبنانيين ما زالوا على تعلقهم بـ «زعيم القبيلة ـ الطائفة»، و بـ «حكمته» التي لا يشكّون فيها، فهو وانْ سبق وقدّم بعض المساهمات النضالية في مرحلة ما، وهو مشكور عليها، لكن ذلك لا يجب ان يتوّجه «زعيما»، حيث تكاد كلمة «زعيم» تصبح مرادفة لكلمة «بيك» التي أصبحت في هذا العصر كلمة غير مستحبّة، وهذا ما لا نرضاه له ولا لطائفته. بعض «الزعماء» استطاع أن يقنع أبناء طائفته بأنه هو من يحميها ويحمي أفرادها ويؤمّن لهم إمكانية الحصول على لقمة العيش من خلال وظيفة هنا أو هناك، في حين أنّ الوظيفة يجب ألا تكون إلا عبر مجلس الخدمة المدنية مثلاً وعبر الكفاءة لا عبر ما يسمّى بالواسطة، ومن دون (جميلة أمراء الطوائف). الناس تحتاج الى قادة أحرار لشعب حر، وليس إلى قادة يعيشون كالبكوات على حساب طوائفهم، وأصبحوا جزءاً من الفساد والفاسدين، فتنعّموا هم وعائلاتهم وكلّ الفاسدين الآخرين بخيرات الوطن على حساب فقر الناس وقوّتهم. وإلا فليقل لنا أيّ من القادة الذين حكموا البلد طيلة هذه السنين لماذا وصلنا إلى كلّ هذا الخراب والانهيار؟ ومن المسؤول؟ أليسوا هم المسؤولين؟

وهنا نطرح سؤالاً: لماذا لا نجد مصطلح «زعيم» الطائفة السياسي إلا في أوطاننا المتخلفة؟ لماذا تجري الانتخابات في الدول المتقدّمة على أساس البرامج السياسية الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والبيئية إلخلا على أساس الولاءات الطائفية والمذهبية والزعاماتية؟ لماذا يجري في الدول المتقدّمة تعيين رئيس الحزب الفائز بالانتخابات في موقع السلطة بناء على الأغلبية التي حصل عليها بالتصويت لصالح برنامجه في الحكم وليس لأنه يتمتع بشبوبية حلوة أو بسطوة؟ ولماذا يحاسَب المسؤول عندهم ويعاقب على تقصيره؟

الفساد لا يأتي من لا شيء، بل من جهل العامة و»ذكاء المسؤول» الذي يستغلّ طيبة الناس وانتفاع بعض الأتباع. كما يأتي من الأموال التي يدفعها الخارج لبعض الأعوان له في الداخل، كما صرّح بذلك بعض المسؤولين الأميركيين أنفسهم.

أنّ الانفجار الذي ضرب مرفأ بيروت حصل لأنّ السلطة فاسدة والنظام السياسي الطائفي هو رأس الفساد وحامي الفاسدين.

اللبنانيون اليوم استيقظوا وعرفوا أنّ الوطن ليس شأن قبيلة أو طائفة، وليس شأن مرجعية دينية أو زمانية، بل هو شعب وجغرافيا، وتاريخ، ومساحة حرية وإمكانيات، ولحمة وطنية، وتطلع مشترك الى المستقبل والعيش بكرامة في وطن حر تحميه دولة قادرة أن تؤمّن له فيه العدالة من خلال قضاء مستقلّ وتوزيع عادل للثروة.

ومع هذا الوعي المستجدّ، فإنّ الشعب الذي أيقظه هول الواقع الذي وصل إليه، صار يتطلع الى محاسبة المسؤولين على تقصيرهم أو ارتهانهم للخارج الذي يغطي فسادهم. وصار يتطلع إلى نظام سياسي وعقد اجتماعي جديد تكون المواطنة هي أساس العيش بين أبناء الوطن، هذا العقد الجديد هو الذي سينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس الديمقراطية الحقيقية التي تساوي بين المواطنين نصاً وممارسة، وتحترم حرية الفرد وحقه في الوصول إلى أيّ منصب أو وظيفة اعتماداً على مبدأ الكفاءة والولاء للوطن وخدمة المواطن من دون تمييز، لا على الانتماء الديني أو المذهبي، ولا استزلاماً لهذا أو ذاك، كما والسهر على تطبيق القانون من خلال قضاء نزيه ومستقلّ

أما الدعوة التي يطلقها البعض اليوم لجعل لبنان بلداً محايداً فما هي إلا استدراج لعروض الوصايات الأجنبية ولو من دون قصد.

علينا ألا ننسى بأنّ لبنان منذ نشأته أريدَ له ألا يخرج عن إرادة الغرب، أيّ أن لا يكون محايداً، و»إسرائيل» منذ إنشائها في فلسطين، أريدَ لها ان تكون قاعدة عسكرية متقدّمة للغرب في بلادنا وعالمنا العربي وغرب آسيا، ومتفوّقة عسكرياً تفوّقاً مطلقاً، وذلك لمنع قيام أيّ تقدّم في عالمنا العربي وإشغاله بحروب دائمة إلى أن يقبل هيمنة «إسرائيل» على المنطقة والسماح لها باستنزاف ثرواتنا ومنع قيام أيّ قوة إقليمية تخدم مصالح شعبها وشعوب المنطقة لأنه يعتبر قيام مثل هذه القوة تهدّد مصالح الغرب.

نحن نمتلك ثروات طبيعية مثل المياه والغاز والبترول فسال لعاب الغرب و»إسرائيل» من أجلها، والغرب لكي يحكم سيطرته على بلداننا لا يتعاون إلا مع الفاسدين،

وليست الحروب التي يقوم بها في أفريقيا وآسيا والحروب الأهلية التي يتسبّب بها بحجة إنقاذ الشعوب من حكامها المستبدّين الذين تعاون معهم لسنوات، إلا دليلاً على أطماعه التي يغلّفها بشعارات إنسانية، وهذا استغباء للشعوب واستغلال لفقرهم الذي كان هو بتعاونه مع الفاسدين وحمايته لهم قد تسبّب به.

لكن علينا ان نفرّق بين الغرب كفلسفة وعلوم وابتكارات تكنولوجية وثقافة إنسانية نحترمها ونقدّرها لأنها أفادت البشرية جمعاء، وبين السياسات الغربية التي لا تزال سياسات استعمارية. فالغرب يريد السيطرة على شعوب العالم ومقدراتها، ويفعل كلّ ما يصبّ في مصلحته ولا يلتفت إلى مصالح الشعوب. أما الوصايات الأجنبية تحت عنوان الحياد فهي انتقاص من السيادة والاستقلال، فالشعوب تحتفل سنوياً بذكرى استقلالها عن السلطات الأجنبية المستعمرة، ولا تحتفل بذكرى انتدابها عليها أو احتلالها لها. الشعوب الحرة تقاوم كلّ احتلال أو هيمنة، وتقدّر تضحيات مقاوميها وتجعل من قادة مقاومتها رموزاً وأيقونات.

لبنان استيقظ اليوم وعرف مَن مِن الحكام كان يستغلّه ويسرق خيراته طيلة العقود الماضية من السنين، عرف سبب فقره وإذلاله، عرف الفاسدين بالاسم، بعد أن اختارهم واختبرهم فأوصلوه اليوم إلى القاع. عرف اللبنانيون أنّ نظامهم الطائفي التحاصصي هو المسؤول عن النتائج المخيّبة للآمال وهو المجرم الذي تجب محاسبته وإلغاؤه من قاموس السياسة.

نعم، لبنان اليوم يعيش يقظة شعب وخريف نظام

 

*أستاذ جامعي، شاعر ومترجم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى