مرويات قومية

الرفيق نعيم فارس عبد الخالق القدوة في الحزب وفي التفتيش المركزي

عرفته بعيد انتمائي الى الحزب أواخر عام 1956 تعرفت على العديد من المسؤولين والرفقاء عبر تردّدي الى بيت الطلبة، وفيه كانت تعقد محاضرات ثقافية وحفلات اجتماعية حزبية.

أحد الرفقاء المسؤولين في منفذية الطلبة الجامعيين، وقد لفتني في حينه بثقافته وتهذيبه وتعاطيه المناقبي مع كلّ من يتصل به من رفقاء ومواطنين، هو المنفذ العام الرفيق نعيم عبد الخالق.

وتباعدنا. فالرفيق نعيم بات موظفاَ مرموقاَ في دائرة التفتيش المركزي، فيما انصرفت الى مسؤوليات حزبية شتى.

عندما انتقل الرفيق نعيم عبد الخالق الى مرحلة التقاعد، التقيتُ به. كان ما زال، كما عرفته، عقائدياً، مؤمناً، ويتمتع بفضائل النهضة.

استعنت به في عمدة شؤون عبر الحدود مسؤولاً عن ملف الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم. كان يتردّد الى مكتب العمدة، فنستعيد معاً أيام العمل الحزبي في بيت الطلبة ونستذكر رفقاء أحباء عرفوا الحزب نهضة ومناقب وقضية عظيمة تستحق ان نستميت في سبيلها. إلا أنّ إقامته في عبر الحدود، لم تطل. اذ سرعان ما امتدت اليه يد المرض الذي لم يمهله طويلاً فقضى وسط لوعة رفقائه ومحبيه الكثر.

سيرة ذاتية:

ولد الرفيق نعيم عبد الخالق في مجدلبعنا بتاريخ 10/10/1930.

والده فارس شاهين عبد الخالق كان من كبار ملاكي الأراضي في مجدلبعنا، عُيّن شيخ صلح ثم مختاراً لأكثر من خمسين عاماً.

توجه نحو العلم باكراً وكان شغوفاً وطموحاً منذ ريعان الشباب. لم يكتفِ بحياة عادية يساعد فيها والده في الزراعة، بل توجه نحو التحصيل العلمي رغم صعوبة التعليم في تلك الأيام وندرة المدارس.

تحمّل مسؤولية نفسه ودرس في الجامعة الوطنية في عاليه في الأربعينات من القرن الماضي مع تحمّله مصاعب التنقل بين القرية وعاليه. تكفل والده برسوم المدرسة بينما تكفل هو بتحصيل مصروف الجيب من جرّاء بيعه بعضاً من محصول والده في بحمدون، وغالباً ما كان يتوجه الى عاليه سيراً على الأقدام في أيام الثلج.

قام مع رفاق له بإقامة المدارس الصيفية في جرد عاليه، ينشرون من خلالها العلم لمن يرغب به.

تأثر كثيراً في شبابه بأستاذه الأديب مارون عبود(1) حيث كان يكتب الشعر الموزون والعديد من المقالات والرسائل الغاية في الجمال من الناحية الأدبية واللغوية،

في الخمسينات درس «الكيمياء» في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم عمل ضمن الاختصاص هذا في بنك الدم حيث تعرّف على زوجته السيدة منيرة بلوط، وعلى العديد من المواطنين المرضى والمحتاجين للمساعدة الطبية، ولا زال هؤلاء يذكرون خدماته وتضحياته في هذا المجال.

لم يقتنع الرفيق نعيم بهذا الاختصاص وهذه الوظيفة فعاد الى الدراسة من جديد ودرس الحقوق في الجامعة اللبنانية وتخرج بتفوق، عام 1967.

مارس المحاماة لبضع سنوات قبل ان ينضمّ الى معهد الإدارة التابع للدولة اللبنانية وفيه برز تفوّقه وحاز على المرتبة الأولى في المباراة النهائية وتمّ تخييره بين العديد من الوظائف في الدولة اللبنانية، منها ان يتمّ تعييّنه سفيراً في الخارج لكنه فضّل البقاء في الوطن وانضمّ الى التفتيش المركزي التابع لرئاسة مجلس الوزراء حيث كان في عمله مثال الاستقامة والنزاهة وقد تمكن من فرض الانضباط على العديد من الوزارات والإدارات والمؤسسات العامة فنال احترام جميع الوزراء الذين عمل معهم.

تدرّج في سلك التفتيش المركزي حتى الفئة الأولى من الدرجات الوظيفية. نال شهادة الماجستير في الحقوق وفي الثمانينات سجل لأطروحة الدكتوراة في التنمية الإدارية.

عُيّن مستشاراً لوزير التنمية الإدارية القاضي سامي يونس وساهم في إعداد الخطة الشاملة لتنمية الوزارات والإدارات العامة.

قام بترجمة العديد من الكتب العلمية والتاريخية للعديد من دور النشر.

يُعتبر مرجعاً في العلم والمعرفة.

رفض العديد من المناصب العامة التي عُرضت عليه في أيام الحرب اللبنانية لعدم اقتناعه فيها.

توفي في 8/8/1993 عن 65 عاماً وهو في قمة عطائه.

له أربعة أولاد…

ـ ديانا: درّست الكيمياء في الجامعة الأميركية في بيروت ثم الصيدلة في جامعات بلجيكا.

ـ ربيع: حاز على الماجستير في الهندسات المالية من الجامعة الأميركية في بيروت والولايات المتحدة.

منى: حازت على شهادتيّ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت والهندسة المعمارية في الجامعة اللبنانية ومن ثم الماجستير في التنظيم المدني من الجامعة الأميركية في بيروت.

خالد: حاز على البكالوريوس في إدارة الاعمال من الجامعة اللبنانية الأميركية.

*

المسيرة الحزبية:

على الرغم من كون والده من مناصري أحد الإقطاعيين السياسيين في لبنان، الا انّ الرفيق نعيم لم يقتنع بهذا الخط وانتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي في بداية الخمسينات وساهم مع رفقائه في تأسيس مديرية مجدلبعنا ونشر العقيدة القومية الاجتماعية في جرد عالية ثم ضمن صفوف الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت حيث عُيّن منفذاً عاماً للطلبة في أدقّ مراحل العمل الحزبي بعد استشهاد سعاده.

 شارك في معارك عام 1958 وكان ملاحَقاً من الخصوم، حيث تعرّض لعدة محاولات اغتيال، أصيب شقيقه عادل في إحداها إصابات خطرة.

شارك الأمين رضا كبريت ورفقاء في الأعمال الأدبية والمسرحية، وقام مع أعضاء الفرقة المسرحية بعرض العديد من المسرحيات الدالة والهادفة في الكيانين اللبناني والشامي.

تحمّل عدة مسؤوليات في الحزب خلال حياته، أبرزها منفذ عام الطلبة الجامعيين ثم في عمدة شؤون عبر الحدود مسؤولاً عن ملف الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم.

كان الرفيق نعيم يفضل العمل بصمت بعيداً عن الضوضاء وبعيداً عن الصفوف الأمامية البراقة، مثالاً في التواضع، لم يسعَ الى المراكز ولا للحصول على تقدير من أحد، كونه كان واثقاً من نفسه وزاهداً في شكليات المجتمع الحاضر. آمن بالعقيدة السورية القومية الاجتماعية وعمل لها وجسّد فضائلها وكان قدوة في مجتمعه، وبين رفقائه. لقد خبرته جيداً في عمدة شؤون عبر الحدود وأشهد أنه كان يشعّ وعياً ومناقب ويجسّد فضائل النهضة في كلّ تصرفاته وتعاطيه.

*

كتبوا عنه:

نشرت الأديبة الراحلة انصاف الأعور معضاد هذه الكلمة عن الرفيق نعيم عبد الخالق في عدد النهار بتاريخ 24/9/1993

نعيم عبد الخالق أستاذي

كنت تضحك على الحاضر

المكان هادىْ ساكن حتى تكاد تسمع أنفاس نعيم عبد الخالق الشاعرية المحيطة في بيته هامسة مثل رضى القسمات من مطلات ضيعته مجدلبعنا.

كان الليل على وشك الفجر حين غادر باكراً قبل طلوع الشمس، وربما هذا من إحدى أمانيه ان لا يحاط بالضجيج وان يكون السكون رفيقه في رحلته الأبدية. واشجار الحديقة حول منزله مزهرة والعوسج في لونه الزهري وانت الانسان رحلت… واشجار العناب تحمل ثمارها ببهاء العطاء وانت فارقت العطاء. بكرت كثيراً في الرحيل حين ان كتابا كان يرقد بين يديك ينتظر عيون القراء. بقي الكتاب والأوراق والصور القيمة والحديثة وانت ذهبت بقي الزمن  يجدّد جماله الأزلي وانت ذهبت. وبقيت الحروب في العالم تتمسرح كلّ يوم وتسير منتصرة فوق بطون الجياع والمعذبين وانت ذهبت. بقيت الأعشاب تنبت والأزهار تفرح والأطفال تولد وانت ذهبت الى عالم لا ولن أحب ان أسميه بالأسماء الخيالية. فكلّ هذه التسميات لا تشبه التعاطي مع الحياة ومع الحسّ الواعي، وهذا الحسّ الذي يظلّ سراً مهما قيل عن كشفه، وعجيب هذا الانسان يعيش نصف عمره بالوهم والنصف الآخر بالعلاقات الموهومة.

اذكر يا استاذي الكريم انني كلما التقيتك وفي أيّ مكان، كنت تبادر الى القول: «تعلمون كنت أستاذاً لهذه التلميذة النجيبة» ثم نضحك على الحاضر ونضحك من الماضي ومن الأقدار التي تعبث بمصائر البشر رغم ان الانسان يعتقد انه سيد قراره.

تلك الأيام كان للنضال فيها طعم ولون، واستمرت فيك الحمية الإنسانية.

من وقت ليس ببعيد التقيتك كعادتك كلّ صباح في ذلك الشارع المؤدي الى سنتر فرح بعد ان تقاعدت من مهمتك الوظيفية في التفتيش المركزي، كنت أسمع منك كلمات تتصاعد منه رائحة الاحتراق، والندم يملاْ صدرك ويطفح حتى يثور الفكر وانت صاحب القلم الممشوق مثل نخلة لا تغفو ولا تعترف بالزمن. لكن هذا الزمن دائما يخيب الأجساد البشرية.

امضيت كلّ أيام الشباب تكافح ليبقى التواصل بينك وبين الأنين راقياً كما كنت تراه، وعلى من كان مثلك ان يمتلئ بالأحزان وان تغلبه هذه الأحزان، فقلوب النبلاء لا تحتمل رؤية التحولات، وكان قلبك مطواعاً لشفافية ذاتك فقرر ان يكون الرحيل باكراً فجر يوم من آب، يوماً مليئاً بالمفاجآت المتناقضة: حياة وموت وولادة.

انصاف الأعور معضاد

*

وفي تاريخ 4/10/1993 نشر الرفيق الأديب سعيد حمود ملاعب الكلمة التالية تحت عنوان: نعيم عبد الخالق لن يكتب المقدمة

(الى المفتش في التفتيش المركزي نعيم عبد الخالق)

ألا بوركت هذه الأرض التي لا تنبت الا عميم الخير ولا تعطي الا الجنى لخير أبناء الحياة.

ألا بورك الأهل الذين اطلعوا الراحل نعيم عبد الخالق شجرة مثقلة بالثمار الطيبة.

لم تنبت هذه الأرض المعطاء الا الرجال، فبوركت عطااءتك يا ارض بلادي الخيرة.

خيرك ملأ نفوسنا آمالاً وارفة بمستقبل زاهر وايمانك بالحق زادنا يقيناً ان القدر يرسلنا أنّى يشاء ومتى يشاء.

واليوم تستعيد الأرض وديعتها وتعود البذرة الاصيلة الى ارض جديدة تحضنها وتحفزها للقيام بدور جديد ثم تبعثها ولادة جديدة في دور هو حلقة في سلسلة تعاقب الموت والحياة.

البذرة التي نودع ثم نستقبل كانت اصيلة اصالة الحياة. وهذه البذرة تقمصت يوما نعيم عبد الخالق الذي كان من عطاءات هذه الذرى العامرة بالمحبة والمعرفة والايمان.

سلك طريق تحقيق الذات وكان منسجماً مع نفسه وأهله ومحيطه، وكانت غاية مسعاه الخير والحق في نفسه وفي نفوس أبناء وطنه.

حياته صدق في اللسان وحفظ للاخوان والاهل وعمل بالاركان التي هي أساس بناء الذات وبناء الانسان والوطن.

افتقدنا اليوم هذا الرجل البار ولكن لا نعترض على سنة الله في خلقه.

انها سنة الحياة، والموت والحياة وجهان لحقيقة واحدة.

على الأرض ان تستعيد بذرتها المتجددة فينا وبنا.

على التراب ان يستعيد ترابه ليبعثه من جديد زاخرا بنبض الحياة والتجدد.

انها أقدارنا ننفرس بذوراً جديدة، ثم بعد المعاناة نشق التراب وننبعث من الأرض المقدسة نبتا متجدداً يحمل اسرار كل تجدد.

ماذا اقول يا صديقي في يوم وداعك؟ كنت وفياً، صادقاً، عطوفاً على الأرض التي انبتتك ورعتك وبعثتك الى الحياة غصنا مثقلاً بطيب العطاء.

لم تنس دورك فأهلت كينونتك بعمق ودراية حتى غدوت عنصراً متفاعلاً وفاعلاً في محيطك والوطن.

كان هاجسك ان تتناغم وعواطف النفوس الابية، وان تتآلف مع مشاعر القلوب العامرة بالمعرفة والايمان.

يا صديقي: كنت صادقا مع آمال الوطن واحلام شعبك فلم تبخل بما أعطيت من قوة فكر ونبل هدف .

رفعت يدك الى جانب سواعد من كان همهم وسيبقى سعادة الانسان وخير الوطن.

الموت! ما هو الموت؟ ابحار من حافة الحياة الى الشاطئ الآخر، ولكن مع هذا الإبحار يسطع النور الحقيقي المنبثق من اعماقنا. مع الإبحار تسطع صفحات سرائر نفوسنا، وتتملكنا فرحة النقلة من تراب الى تراب ومن النور الى النور.

صفحات حياتك كانت نقية نقاء فكرك النيّر. سيرتك كانت مليئة بكل صدق وامل ورجاء.

ابجدية سلوكك خطت بريشة الإخلاص ومداد العزة والكبرياء ونفحة المعرفة والايمان.

أيها الوطن: كبّر باسم الألى بثوا في سمائك نفحات الطيب العطر ونسيمات الاريحية.

أيها الوطن: نعيم عبد الخالق كان من الذين بثوا كل عطرٍ اصيل وبعثوا نسائم الجود.

« أيها الكون: كبّر الألى بعثوا الى اعاليك أعمالهم البارة وملأوا الأرض والسماء ارواحاً لطيفة» ونعيم عبد الخالق كان تلميذاً نجيباً من تلامذتهم.

أيها المتجدد، في اللقاء الأخير بيننا كان اتفاقنا ان تكتب مقدمة لكتابك المترجم (السنوات الضائعة). بعد غيابك من سيكتب مقدمة المترجم؟ جاء الجواب من القضاء والقدر فهما كفيلان بكتابة كل مقدمة ومضمون.

جاء الجواب «لا يؤخر الله نفساً اذا جاء اجلها».

أيها الصديق: كثر الذين ابحروا نحو الشاطئ الاخر. لا بد من الإبحار عاجلاً او اجلاً. الى اللقاء.

 

سعيد حمود ملاعب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى