الخروف الأسود…
د. علي أكرم زعيتر
احتدمت المنافسة على كرسي الرئاسة بين الخليفة العثماني أردوغان، وبين الخروف الأسود، العلماني كليتشدار أوغلو، حتى كادت القلوب تبلغ الحناجر، لولا أن تفتّق ليل الأحد ٢٨ أيار عن فوز مريح للخليفة، وهزيمة بطعم النصر لأوغلو.
كلاهما يؤمنان بضرورة إعادة أمجاد تركيا، ولكنَّ أحدهما يحلم بعودتها عثمانية إسلامية مباركة، وآخر يحلم بعودتها مدنية علمانية أتاتوركية.
أردوغان المسلم السني، يعني له الإسلام الشيء الكثير، وتركيا العلمانية، بصورتها الأتاتوركية الفظة، والتي كانت، حتى وقت قريب، لا تسمح للطالبات التركيات بارتداء الحجاب داخل الحرم الجامعي والمدرسي، هي كابوس لا يتمنى الرجل أن يراوده مجدّداً.
أما أوغلو، المسلم العلوي، فبالرغم من تصريحه الأخير الذي أبدى فيه اعتزازه بهويته الإسلامية العلوية، فإن الجميع تقريباً متفق ـ بمن فيهم أوغلو نفسه ـ على أن الدين لا يعني له الشيء الكثير، وأنّ حلمه الأول والأخير هو إعادة تكريس العلمانية بصبغتها الأتاتوركية الفظة، لكونها تمثل خشبة الخلاص لتركيا، وفقاً لاعتقاده واعتقاد أعضاء الحزب الجمهوري الذي يمثله.
السباق الرئاسي في تركيا لا يشبه نظيره في أميركا، ولا حتى في دول أوروبا الغربية، فالمنافسة هناك غالباً ما تكون حول مشاريع اقتصادية، اجتماعية، سياسية، وقلَّما تجد منافساً رئاسيّاً غربيّاً يقيم للدين والإيديولوجيا وزناً كبيراً. قد تجد يمينيّاً مسيحيّاً متطرفاً في أوروبا يرفع شعار ”المجد للرب“، ولكنه لا يكترث كثيراً لمدى تقبّل الناخبين لطروحاته الدينية. جلّ ما يهمّه هو أن يتقبّلوا برنامجه الانتخابي، والذي عادةً ما يكون على رأس أولوياته منع تدفق المهاجرين، وإعادة الاعتبار للعنصر القومي المحلي.
أما في تركيا، فإنّ الصراع يأخذ مناحي أكثر تعقيداً، حيث للدين الكلمة العليا في كلّ ما يجري هناك. صحيح أنّ الإسلام في تركيا سمِح وليِّن وبعيد عن التزمت والتلطُّع، وصحيح أنه عانى الأمرَّين خلال الحقب الأتاتوركية المتعاقبة، حتى كاد يُجتث نهائياً من هناك، لولا الصدمة التي أحدثها مؤسس حزب السعادة نجم الدين أربكان في تسعينيات القرن، والتي أعادت للإسلام شيئاً من اعتباره في بلاد أحفاد السلاجقة.
وصحيح أن الدولة العلمانية العميقة لا زالت تمسك بتلابيب الحكم فيها، ولكن لا يغرُب عن بال أحد، أنّ حال الإسلام اليوم في تركيا مختلف كليّاً عمَّا كان عليه سابقاً. لقد بات حاضراً، وبقوة في كلّ تفاصيل الحياة السياسية التركية، بعدما نجح أردوغان ومن قبله أربكان في إعادة الاعتبار له، حتى بات لاعباً أساسيّاً لا يُستهان به.
فإذاً، السباق الرئاسي في أوروبا أحادي الأبعاد، أما في تركيا فهو متعدّد الأبعاد، فإضافة إلى البعد الديني الذي أتينا على ذكره، هناك أبعاد أخرى عديدة، لا تقلّ عنه أهمية، منها:
أ ـ صراع الهويات بين تركيا الأوروبية وتركيا المشرقية. فبينما يطمح كليتشدار أوغلو إلى إعادة تركيا للحظيرة الغربية من بوابة الاتحاد الأوروبي، يأمل أردوغان في استكمال أوراق الطلاق بين تركيا وأوروبا، بعدما يئس من محاولات استرضاء القادة الأوروبيين على مدى عشرين سنة من تاريخ حكمه.
ب ـ تركيا التي تطمح للريادة العالمية من بوابة روسيا والصين، أو تركيا الشرطي المحلي والإقليمي الذي يعمل تحت إمرة أميركا، (تركيا الأطلسية مقابل تركيا الأوراسية).
ج ـ تركيا التي تنظر إلى سورية على أنها حديقة خلفية ينبغي أن تبقى هادئة ومستقرة، أم تركيا التي ترى في سورية مجالاً للتمدّد العسكري، وبسط النفوذ والسيطرة، والأحلام التوسعية، حتى ولو كلف ذلك حرباً داخلية، كالتي أحدثتها سياسات أردوغان ورهاناته الخاطئة منذ العام 2011.
هناك فروقات كبيرة بين السباق الرئاسي التركي والسباقات الأخرى الموازية، على أنّ هذه الاختلافات بحدّ ذاتها لا تهمّنا، بقدر ما تهمّنا فاعليتها في الإجابة على السؤال الآتي: مَن الرابح الأكبر مِن فوز أردوغان؟
روسيا وإيران وحلفاؤهما، أم أميركا وأوروبا وحلفاؤهما؟
إيران
كان قادة إيران وساستها يعضّون على أناملهم في انتظار اللحظات الحاسمة، فخسارة أردوغان الذي يتبنّى فكرة الإسلام السياسي أو حاكمية الإسلام، هي خسارة بنحو أو بآخر لإيران الإسلامية.
صحيح أنّ الثورة الإسلامية في إيران شيعية الهوى، وحزب العدالة والتنمية الذي يقوده أردوغان سني الهوية، ولكن الفريقين يلتقيان حول الطروحات الإسلامية العامة، وهي طروحات مشتركة بلا شك.
لا، بل إنّ هناك من يذهب بعيداً في هذا السياق، فيرى أنّ الأصول الإخوانية المشتركة لحزب العدالة والتنمية المنبثق عن تنظيم الإخوان، والثورة الإسلامية الإيرانية المنبثقة عن حزب الدعوة ذي النزعة الإخوانية، يجعل حرص إيران على فوز أردوغان وقلقها من خسارته أمراً بديهيّاً.
ويذهب آخرون أبعد من ذلك، فيتصورون أن تجيير المرشح الشيعي أوغان أصواته لأردوغان في الجولة الثانية من الانتخابات، يعكس تخاطراً فكريّاً جادّاً بين الرجل وبين عمقه المذهبي في إيران، علماً أن هويته العلمانية واضحة للعيان، وأن علاقاته بإيران الثورة قد تكون معدومة.
يطرح بعض المراقبين سؤالاً من قبيل: هل استشعر أوغان خطر وصول رئيس علوي إلى الحكم في تركيا، فبذل أصواته للرئيس السني، على اعتبار أن السنة أقرب للشيعة من حيث العقلية وأطر التفكير، وحتى العبادات والطقوس، في حين أن العلويين البكتاش في تركيا أبعد ما يكونون عن الموروث الشيعي ـ السني المشترك؟
بالطبع، لا يختلف اثنان على أن هذا السؤال، مضحك بعض الشيء، فلا أوغان العلماني، ولا أوغلو القومي العلماني يفكران بهذه الطريقة. لا نعلم ما الذي حدا بأوغان إلى اتخاذ مثل هذا التدبير، ولكن من المؤكد بالنسبة لنا، أنه تدبير صبّ في صالح إيران، أو بالحد الأدنى جارى الرغبة الإيرانية وتماشى معها عن قصد أو غير قصد.
على أي حال، قد نجد إجابات شافية على هذا السؤال عند علماء النفس. فهناك رأي سائد بين هؤلاء يقول: إن الكثير من قراراتنا المصيرية قد تكون نابعة من تجارب سابقة عشناها في بيئاتنا الاجتماعية، وقد ترسخت عميقاً في لا وعينا الجماعي. فمن يدري، ربما يكون قرار أوغان نابعاً من هذا التصور!
روسيا
تجمع بوتين بأردوغان علاقات قوية، وقد تجذرت هذه العلاقات مؤخراً بعد حربَي سورية وأوكرانيا. لقد أثبت أردوغان، أن بمقدوره أن يشكل دعامة حقيقية لروسيا في المنطقة الأوراسية، وأن يكون شريكاً فاعلاً، وحليفاً صادقاً، فكان أن شاهدنا كمَّ الحرص في عينَي بوتين، ومدى رغبته في فوز صديقه أردوغان.
في السنوات الأخيرة، خطت تركيا خطوات متسارعة نحو الشرق، مقابل إدارة ظهرها للغرب، في ما يبدو وكأنه محاولة لإعادة التموضع، بعدما يئس أردوغان من خطب ودّ الأوروبيين الغربيين.
وعلى ما يبدو، فقد تنبَّه بوتين لذلك باكراً، فحاول أن يستغله لصالحه في معركته الدائرة مع الغرب. فكَسْب حليف جديد كتركيا في معركة روسيا الممتدة مع الغرب فرصة لا ينبغي تفويتها.
على هذا الأساس، كان أن أبدى بوتين نواجذَه فرحاً بفوز أردوغان، وتنفس الصعداء، حين قال، مهنئاً إياه بفوزه: “فوزكم في هذه الانتخابات هو النتيجة المنطقية لعملكم المتفاني بصفتكم رئيساً للجمهورية التركية“.
فمعركة بوتين في باخموت لن يطرأ عليها تغيير استراتيجي سلبي بعد فوز حليفه، على عكس ما كان سيحصل لو فاز منافسه كليتشدار أوغلو، فالأخير، حظي بحفاوة كبيرة في الغرب، وقد كتبت كبريات الصحف الغربية حول حظوظه لتولي الرئاسة، مُمنِّيةً النفس بفوزه، بينما لم تبدِ مثل هذه الحماسة حيال أردوغان، بل على العكس تماماً، فقد أعرب العديد من كتَّابها عن خشيتهم من فوزه.
العقوبات الغربية المفروضة عليه، جعلته يتنازل قليلاً عن مبادئه ــ وعلى أي حال هو ليس شخصاً مبدئيّاً بالقدر الكافي ــ فباع عدداً من طائرات بيرقدار الاستطلاعية لأوكرانيا، على حساب صديقه بوتين، لكنه في المقابل رفض أن ينضمّ إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فتحوّلت تركيا بفعل موقفه إلى منفذ مهم وفعال للبضائع والسلع الروسية.
سورية
بالنسبة لسورية، وشخص رئيسها، الدكتور بشار الأسد، فإنّ الرجل بالرغم ممّا قاست بلاده من سياسات أردوغان المتخبِّطة، ما بين عامي 2011 و2020، يدرك تماماً:
أ ـ أنّ أردوغان المصاب والجريح، أفضل له من أوغلو المعافى والقوي.
ب ـ أن تركيا أردوغان، المتفاهمة مع روسيا وإيران، والمتخاصمة مع أميركا وأوروبا خير من تركيا أوغلو، المتصالحة مع الأخيرتين، والمتصادمة مع الأوليين.
ج ـ أن الخليفة العثماني أقلّ سوءاً من الخروف الأسود (أوغلو)، وأن الضبع المرقّط أقل فتكاً من الأفعوان الأملس.
د ـ أن العدو الذي تعرفه، أقلّ خطراً من الصديق الذي لا تعرفه. فسورية قد خبرت أردوغان جيدّاً، في حال الرخاء، وفي حال الشدة، وحينما كان حليفاً، وبعدما انقلب عدوّاً. تعرف كلّ شيء عنه تقريباً. بينما تكاد لا تعرف إلا النذر اليسير عن منافسه الخاسر أوغلو، لذا فقد كان فوز الأول وخسارة الثاني أنسب لها.
هـ ـ يدرك الرئيس بشار الأسد جيداً أن أوغلو قومي تركي متطرف، ولا تعنيه أيّ اعتبارات أخرى، إلا بقدر ما تخدم مصالحه، وعلى هذا الأساس فقد قدّر، ولربما كان تقديره صائباً، أنّ أوغلو في حال فوزه لن يفكر إلا في مصلحة تركيا، وعليه فإنّ شيئاً لن يتغيّر على الأراضي السورية، لا، بل إنّ الأمور قد تزداد سوءاً، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أنّ أوغلو أكثر تماهياً مع السياسات الغربية من أردوغان، وبالتالي، فإنّ احتمال تفاقم الأوضاع في المناطق السورية الشمالية وارد بقوة مع فوز الأخير.
و ـ تحدث بعض المراقبين عن حدوث انفراجات كبرى في العلاقات السورية التركية في حال فوز أوغلو، وقد بنى هؤلاء تصوّرهم على وحدة المذهب التي تجمع بين الرئيس السوري والمرشح أوغلو (باعتبارهما علويَّين). لكن فات هؤلاء على ما يبدو أنّ كِلا الرجلين لا يتعاطيان الشأن السياسي بنَفَس مذهبي. فالانتماء المذهبي بالنسبة للدكتور بشار الأسد هو مجرد علاقة روحية بين المرء وربِّه، وعليه لا مكان لها في عالم السياسة، إلا بقدر ما تخدم مصالح سورية العليا، ولعلّ الأمر ذاته بالنسبة لأوغلو.
على أي حال، لا ينبغي أن يفوتنا أن كِلَيهما قومي. أحدهما قومي عربي، والآخر قومي تركي. ومن المستبعد أن تلتقي القوميتان العربية والتركية على قاسم مشترك، نظراً لما كان بينهما من صراع مرير، خلال فترة الحكم العثماني لبلاد الشام، والوطن العربي.
أميركا وأوروبا
لم يخفِ الساسة الغربيون فرحتهم لعدم تمكن أردوغان من الفوز في الجولة الأولى. لقد بدا الأمر وكأنه هدية السماء لهم. لكن سرعان ما تبدّدت فرحتهم وانقلبت حزناً، بعدما تمكن الرجل من حسم الانتخابات في الجولة الثانية.
لقد عانى الأوربيون طويلاً من سياسات أردوغان، فهو لا يخفي طمعه بدخول تركيا نادي الاتحاد الأوروبي، ولكنه في المقابل لا يقبل بالتخلي عن طابعها الإسلامي، ويصر على التمسك بشيء من استقلاليتها، بما يخوّله اللعب على الهامش، وهذا أمر لا يتقبّله الأوروبيون، فأن تنضمّ إلى الاتحاد الأوروبي، يعني أن تكون مؤمناً بثقافة القطيع، ومتبرّئاً من كلّ موروثك وتاريخك الخاص من جهة، وطيِّعاً من جهة أخرى.
إنّ شخصية أردوغان الميَّالة للمشاغبة نفَّرت على ما يبدو الأوروبيين منه، وجعلتهم يتمنّون رحيله، ولكن يظهر أنّ رياح الانتخابات التركية جرت بما لا تشتهي سفنهم.
إنّ من شأن علاقات أردوغان الطيبة بكلّ من روسيا والصين وإيران، أنّ تقلق الاوروبيين منه، وتدخل الريبة إلى نفوسهم، لكن هذا ليس أقصى ما يخشونه، فهناك ما يعرف بكابوس أوروبا الأكبر (الهجرة). لعله يكون الأكثر إثارةً للذعر في نفوسهم.
ذات يوم من العام 2019، خرج أردوغان على الملأ ليهدّد أوروبا قائلاً: ما لم نحظَ بالدعم الدولي المطلوب، فلن نتردّد للحظة في فتح أبواب الجحيم عليكم. هناك أكثر من ثلاثة ملايين ونصف من اللاجئين السوريين في تركيا. تخيّلوا لو أنّ أردوغان فتح أمامهم أبواب الهجرة إلى أوروبا!
إنّ مجرد تهديده بفتح أبواب الهجرة إلى القارة العجوز، كان كفيلاً بإثارة نقمة ساستها عليه، حتى غدا العدو رقم اثنين بعد بوتين.
مصر والسعودية
تتنافس مصر والسعودية من جهة، وتركيا وحليفتها قطر من جهة أخرى على زعامة العرب والمسلمين. ويجد كلّ من الطرفين في الطرف الآخر خصماً لدوداً له.
بينما كانت السعودية متحفظة حول الإعلان عن رغبتها بخسارة أردوغان للانتخابات، لم تخفِ أوساط مصرية مطلعة ارتياح القيادة المصرية لتعثر الرجل في الجولة الأولى من الانتخابات.
لذا من المتوقع برأينا، أنّ خبر فوز أردوغان قد نزل كالصاعقة على رؤوس القادة المصريين.
تتهم مصر أردوغان بإيواء عدد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين المصنفة كمنظمة إرهابية في مصر. ولا تخفي تركيا الأردوغانية علاقاتها الطيبة بالإخوان، كما لا تنكر صلاتها الوثيقة بتنظيمهم العالمي، ما حدا بالبعض إلى حدّ القول، إنّ أردوغان نفسه عضو في التنظيم العالمي للإخوان.
هذا الأمر، بحدّ ذاته، يُعدّ كارثة بالنسبة لعبد الفتاح السيسي الذي وصل إلى الحكم بانقلاب عسكري على الإخوان، لذا فإنّ أحداً لا يستطيع أن يتخيّل حجم القلق الذي يخيّم على القاهرة، بعد إعلان فوز خصمها اللدود.
إنّ مصر والسعودية الطامحتين إلى قيادة العرب والمسلمين تريان في أردوغان الذي يحلم بإعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية خطراً داهماً لا بدّ من محاربته قبل أن يستفحل أمره.
والحقيقة، أنّ الصراع بين السعودية ومصر من جهة وتركيا من جهة أخرى، ليس حديثاً، فإذا قلّبنا في صفحات التاريخ، سنكتشف سريعاً، أنه يمتدّ إلى قرابة المئتي عام أو أقل.
خلال القرن التاسع عشر، كانت نجد والحجاز (السعودية حاليّاً)، ومصر، ولايتين عثمانيتين، خاضعتين لحكم الخليفة في اسطنبول. فحدث أن خرج في أرض الحجاز رجلان، أحدهما يدعى محمد بن عبد الوهاب، والآخر محمد بن سعود.
الأول كان صاحب دعوة دينية، لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، تعرف بالدعوة السلفية أو الوهابية، وقد أفتى صراحةً بكفر الخلفاء العثمانيين، نظراً لتبنيهم آراء صوفية مخالفة لمنهاج النبوة على حدّ زعمه. بينما كان الثاني صاحب مشروع سياسي، قَبَلي، قائم على مبدأ الحكم الأسري المتوارث.
بعد استفحال خطر ابن عبد الوهاب، أوعز العثمانيون إلى واليهم على مصر محمد علي باشا بتسيير حملة عسكرية لوأد الدعوة الوهابية وتأديب الحجازيين الذين تبنّوها، فكان لمحمد علي ما أراد، حيث نجحت القوات التي يقودها ابنه إبراهيم، في ضرب معقل الوهابية، وتبديد خطرها.
ولكنه سرعان ما عاد وانقلب على العثمانيين، فغدا هو الآخر عدوّاً لهم، على غرار ابن سعود وابن عبد الوهاب.
بُعيد الإعلان عن فوز أردوغان، اتصل الرئيس المصري به، وهنّأه بالفوز. وقد اتفق الطرفان في ختام المكالمة الهاتفية على إعادة فتح سفارتَي البلدين، وتبادل السفراء، ورفع مستوى التمثيل الدبلومسي، في ما يبدو وكأنه قرار ثنائي بفتح صفحة جديدة بينهما، وطي صفحة الماضي نهائيّاً. ولكن هل حقّاً، نجح الطرفان في تخطي خلافات الماضي؟!
قد لا تكون الخصومة الحالية بين تركيا أردوغان، والسعودية، ومصر السيسي، ذات جذور تاريخية كما يبدو، ولكن من المؤكد بالنسبة لنا، أنّ آثار الماضي لا تزال ترخي بظلالها على أحداث الحاضر. فالتاريخ كما يُقال عندنا نحن معشر المؤرّخين، دائماً ما يعيد نفسه، لأنّ رغبات وميول الناس لا تتغيّر…