أولى

تفاقم تآكل الردع «الإسرائيلي» والعجز عن علاجه

‭}‬ العميد د. أمين محمد حطيط*
أرست «إسرائيل» وجودها الاحتلالي لفلسطين على نظرية «القوة القادرة على فرض الذات وحفظها» وعطفتها على نظرية «حق القوة» في مواجهة «مبدأ قوة الحق». وقد نجحت «إسرائيل» في تطبيق ذلك خاصة أنها تعاملت مع امتلاك القوة بمنطقين متناقضين وفي فهمها متكاملين وهما منطق حصرية التملك ومنطق المنع أو الحجب عن الخصم.
وبمقتضى الأول أعطت «إسرائيل» لنفسها الحق بالوصول الى مصادر القوة الشاملة وامتلاكها وبشكل خاصة القوة العسكرية بما فيها السلاح النووي، تحقيقاً للقوة التي تمنحها «القدرة الي لا تُقهر»، وفقاً لما وصفت أو زعمت، وبمقتضى المنطق المعاكس أيّ المنع فقد عملت «إسرائيل» على منع العدو والخصم من امتلاك القوة التي تمكنه من مواجهة قواتها وأطلقت نظرية «التفوّق العسكري الاستراتيجي» على أعدائها جميعاً. وهذا ما تؤكد عليه أيضاً أميركا وبكلّ وقاحة ووضوح.
وفي الميدان كانت «إسرائيل» تدخل الحروب التي تخطط لها وتحقق الانتصارات التي تطلبها بشكل تصاعدي. وقد نجحت في الحرب الرابعة مع العرب في احتواء انتصارات الأعداء على الجبهة (حرب 1973) وتمكنت لاحقاً عبر اتفاقية كامب ديفيد، أيّ اتفاقية الصلح مع مصر، من إخراج مصر من ميدان المواجهة وحققت بذلك أهمّ وأخطر كسب استراتيجي لها بعد واقعة احتلالها لفلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني فيها.
ظنّت «إسرائيل» بعد هذا الكسب أنّ عملية تصفية القضية الفلسطينية باتت مسألة وقت، وأنّ مقولة «الكبار يموتون والصغار ينسون أو لا يدركون» مقولة ستجد تطبيقها خاصة بعد أن تمكّنت في العام 1982 عام الحرب على لبنان، من إبعاد منظمة التحرير الفلسطينية مع جميع المقاتلين الفلسطينيين من لبنان الى تونس وسواها بشكل يطمئن «إسرائيل» الى صحة اعتقادها بأنّ حرب 1973 هي آخر الحروب مع الجيوش التقليدية العربية وحرب 1982 هي آخر الحروب ضدّ القوى غير التقليدية. ظنٌّ دفع شمعون بيرز على إطلاق نظرية الشرق الأوسط الجديد الذي دعا العرب الى بنائه مع «إسرائيل» بقوله لهم «بمالكم وإنسانكم وبفكرنا وقيادتنا نبني الشرق الأوسط ونحكم العالم».
بيد انّ هذا الطموح الإسرائيلي كان بحاجة وأكثر من أيّ وقت مضى للتشدّد في نظرية امتلاك القوة بمنطقيها الإيجابي والسلبي، بشكل يحفظ «التفوّق الإسرائيلي الاستراتيجي» الأمر الذي فشلت «إسرائيل» في تحقيقه، بسبب ظهور المقاومة لمشروعها انطلاقاً من لبنان ثم تجدّد وتطوير المقاومة في الداخل الفلسطيني المحتلّ، وهو واقع لم تكن «إسرائيل» تتوقعه خاصة أنّها كانت اطمأنت كما ذكر إلى ابتعاد شبح هذا الخطر بإبعاد المقاتلين الفلسطينيين من لبنان وهدوء الجبهات الأخرى في ما كان يسمّى دول الطوق.
لقد شكلت المقاومة في انطلاقتها المتجدّدة في العام 1982 إشارة سلبية تعاكس الظنّ الإسرائيلي، لكن “إسرائيل” وانطلاقاً من ثقة مفرطة بقوّتها ومعطوفة على تجارب سابقة مع المقاومات التي انتهت بالإبعاد من لبنان لم تنظر الى هذه المقاومة الجديدة نظرة خشية وقلق. وظنت أنها بما تملك من قدرات وما تستطيع من فعل، قادرة على معالجة الموضوع بشكل يحفظ أمنها ويشلّ أو يعطل لا بل ويجتث التهديدات التي تواجهها.
وفي المواجهة، تبيّن لـ “إسرائيل” انّ تقديرها وتقييمها لظاهرة المقاومة في طبعتها الجديدة لم تكن في محلها، خاصة أنّ هذه المقاومة اعتمدت في العمل مبدأ “قاوم بالمتوفر وطوّر المقاومة بما يتوفر من إمكانات”، مبدأ أدى إعماله الى تطوير إمكانات المقاومة وقدراتها بشكل تصاعدي، تصاعد قابله تآكل في قوة الردع الإسرائيلي. فمع كلّ درجة تصعدها المقاومة هناك درجة تهبطها قدرة “إسرائيل” على الردع.
ومع هذه الحركة المتعاكسة لقوة المقاومة ولقوة الردع “الإسرائيلي” بدأت تنهار مفاهيم وقواعد أقامت عليها “إسرائيل” وجودها وأرست أحلام استمرارها، فوجود “إسرائيل” واستمرارها مرتبط بأمرين: قوة عسكرية تصنع هيبة رادعة تحميها، وتفوّق استراتيجي يحفظ استمرار تلك الهيبة الرادعة. أما اليوم فقد تهمّشت الهيبة الرادعة ووضع التفوّق الاستراتيجي تحت علامة استفهام كبرى وتبيّن لـ “إسرائيل” أنّ هناك من لا يخشاها ومن هو مستعدّ لاقتحام الميدان والساحة فيحرمها الأمن الذي تنظر إليه باعتباره العنصر الاستراتيجي الأهمّ في كلّ ما تمتلك أو تطمح بامتلاكه؛ هذا الأمن الذي اهتز تباعاً او تأثر سلباً من خلال:
1 ـ عجز “إسرائيل” عن احتواء عمليات المقاومة النوعية التي شهدتها الضفة الغربية والقدس في السنتين الأخيرتين والتي أبدع بشكل خاص “أسود العرين” في تنفيذها بشكل موجع.
2 ـ عجز “إسرائيل” عن احتواء الخطر الذي تمثله المقاومة من قطاع غزة، والتي سجلت في المعركتين الأخيرتين “سيف القدس” و”ثار الأحرار” إبداعات وقدرات أقلقت “إسرائيل” ووضعت أمنها تحت علامة استفهام كبيرة.
3 ـ عجز “إسرائيل” عن منع المقاومة في لبنان من تطوير قدراتها وامتلاكها سلاحاً كاسراً للتوازن يتمثل في القوة النارية التي تخدم استراتيجية اقتحامية اعتمدتها وباتت المقاومة تتقنها خاصة بعد الخبرات التي كسبتها من الميدان السوري، ثم كانت الصواريخ الدقيقة التي تقول إسرائيل إنها “تحرمها من النوم”.
4 ـ عجز “إسرائيل” عن معالجة متغيّرات جبهة الجولان العربي السوري المحتلّ وإخفاقها في منع تطور هذه المتغيّرات بما يصدّع أمنها رغم تدخلها وعدوانها المتكرر على الميدان السوري.
5 ـ عجز “إسرائيل” عن معالجة الملف النووي الإيراني وفشلها في مساعي التملص من المخاطر الآتية من جبهة العمق أو الجبهة الجوية كما تسمّيها هي وتعني بها جبهة إيران، عجز منعها حتى الآن عن القيام بأيّ مغامرة عسكرية ضدّ إيران وحصرها في نطاق العمليات الأمنية التي تمارسها تخريباً واغتيالاً ويردّ عليها بالمثل وبشكل أكثر إيلاماً أحياناً.
6 ـ وأخيراً كانت المفاجأة الكبرى لـ “إسرائيل” والتي كشفت عن أمرين في منتهى الخطورة، مفاجأة شكلها الجندي المصري الذي قتل 3 جنود صهاينة في عملية يبدو أنها خططت ونفذت بدقة تطيح بآمال “إسرائيل” بالهدوء على جبهة سيناء، عملية كشفت عن الوهن والثغرات في البنية الدفاعية “الإسرائيلية” على جبهة سيناء، كما اكدت أنّ 45 عاماً من “الصلح” مع “إسرائيل” لم تتمكن من تجاوز الشعور بالعداء الذي يحمله الشعب المصري لها.
مشهد يتكامل وتتقاطع صوره عند فكرة مركزية هي أنّ كلّ الجبهات التي تواجهها “إسرائيل” تتحرك بشكل يفاقم المخاطر ويعاكس ما تبتغيه لنفسها من أمن تفرضه قوتها الرادعة التي انقلبت من حال “القوة القادرة” التي تحقق بها ما تريد كما بيّنا الى واقع “القوة العاجزة” عن تحقيق المُراد.

*أستاذ جامعي – خبير استراتيجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى