أولى

هل اقتربت الهدنة؟ وما وضع الجبهات المساندة…؟

‬ العميد د. أمين محمد حطيط*

بداية نلفت الى أننا نتحدث عن هدنة حتى ولو طالت ولا نتحدث عن وقف إطلاق نار ترفضه «إسرائيل» جملة وتفصيلاً، لأنه إذا تقرّر ووافقت «إسرائيل» عليه تكون موافقتها بمثابة الإقرار الصريح بهزيمتها في حرب شنتها بعد عملية «طوفان الأقصى»؛ عملية رفعت فيها السقوف للأهداف الاستراتيجية والعملانية، ولكن الميدان استعصى عليها ولم تمكنها المقاومة الفلسطينية في غزة من تحقيق شيء من تلك الأهداف، كما أنّ الجبهات المساندة التي فتحت دعماً للجبهة الرئيسية في غزة نجحت في التخفيف عن المقاومة وأثقلت كاهل العدو بأعباء إضافية، حرمته من طلاقة الحركة في التخطيط والتنفيذ والمناورة الميدانية في سياق عدوانه.
وفي الحديث عن الهدنة هذه، يبدو ان هناك طرحين أساسيين وبينهما ثالث تحاول الهيئة الأمنية الرباعية (أجهزة الأمن والمخابرات في أميركا ومصر وقطر و»إسرائيل») اجتراحه ليكون مقبولاً لدى المقاومة ومحققاً لأهداف «إسرائيل» وأطراف الرباعية الآخرين. وعليه فإننا نلحظ بأنّ المقاومة تريد حلاً يتضمّن وقف العدوان وفك الحصار وإطلاق الأسرى وتصوّر عملي لإطلاق عملية إعادة البناء. أما العدو الإسرائيلي فإنه يريد هدنة تبقي الواقع العسكري والأمني على حاله مع تحسين لصالحه في خريطة تموضع قواته في القطاع، هدنة يتمّ خلالها إطلاق من تسمّيهم مختطفين لدى المقاومة الفلسطينية في غزة مقابل زيادة حجم مواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية للقطاع. هدنة لا تتعدّى الأشهر الأربعة يكون لـ «إسرائيل» بعدها استئناف العدوان لتحقيق أهداف عجزت عن تحقيقها في الأشهر الأربعة الماضية.
أما أميركا ومن خلال الرباعية الأمنية الاستخباراتية فإنها تسعى الى معالجة الوضع المتفجّر بما يتيح لها إعادة السيطرة عليه وإحياء حلّ الدولتين الذي ما فتئت تروّج له دون أن يكون له أيّ فرصة حقيقية للنجاح، ولكن الأهمّ عند أميركا هو إطلاق الأسرى ومنهم أميركيون، وتفكيك مسرح عمليات المقاومة الذي تعمل فيه جبهة رئيسية في غزة وجبهات مساندة في كلّ من لبنان واليمن وسورية والعراق مدعومة من إيران.
وهكذا فإنّ التباعد بين المواقف الثلاثة قائم الى حدّ يدفع المراقب للقول بأنّ الوصول الى اتفاق يسكت النار مؤقتاً (قصرت المهلة أم طالت) هو أمر عسير، نظراً للتباعد الى حدّ التناقض بين «إسرائيل» والمقاومة ولكن للآخرين مصالح تجعلهم يبذلون من المساعي وينفذون من الأعمال ما يتيح القول بأنّ «هدنة ما» باتت قريبة ولا مفرّ منها لأنها باتت حاجة للجميع من أجل أمرين أساسيّين: الأسرى ومصيرهم، والوضع الإنساني والمعيشي لسكان القطاع والظروف البالغة السوء فيه. لهذا فإننا نرى انّ هذه الهدنة التي قد تكون مدخلاً الى وقف إطلاق نار في صيغة ما، انّ هذه الهدنة التي كانت ترفضها أميركا و»إسرائيل» معاً خشية أن تكون وقف نار يعلن انتصار حماس والمقاومة الفلسطينية في غزة وتالياً محور المقاومة برمّته، إنّ هذه الهدنة التي ستتحوّل الى وقف نار بشروط خاصة باتت أمراً مفروغاً منه لا يمكن لـ «إسرائيل» منعه حتى ولو عرقلت او أخرت الوصول اليه، واعتقد أنّ أسبوعاً إلى أسبوعين هي مهلة كافية لذلك. ويكون في النصف الثاني من شباط كما يبدو بدء هذه الهدنة التي لن تقلّ عن 3 أشهر وستتحوّل مبدئياً الى وقف إطلاق واقعي دائم مقنع.
بيد أنّ همّ «إسرائيل» وقبلها أميركا بات يتعدّى مسألة قطاع غزة وما يجري فيه وعليه، ليكون تركيزهما على الجبهات المساندة التي باتت في أعينهما تشكل تهديداً استراتيجياً هاماً سعتا على مدى 75 عاماً لمنع حصوله، حيث انّ هذه الجبهات رسمت صورة مسرح عمليات استراتيجي تتحرك فيه المقاومة محوراً ومكونات بشكل متناغم ومتناسق وعلى إيقاع وارتباط مع الجبهة الأساسية المفتوحة في قطاع غزة من قبل المقاومة الفلسطينية، وشكلت الجبهات المساندة من لبنان إلى سورية والعراق وانتهاء باليمن، صدمة استراتيجية لمعسكر العدوان على المنطقة.
لقد اعتمد هذا المعسكر المعتدي منذ تشكله وانطلاق عدوانه على المنطقة استراتيجية «التفتيت والتجزئة والاستفراد» ومنع التحشد واللقاء القومي والإقليمي ومنع تشكل الأحلاف وقيام الجبهات الموحّدة في مواجهته، حتى انّ «إسرائيل» أدخلت في عقيدتها القتالية مبدأ «تثبيت الجبهات والعمل على جبهة واحدة فقط» وفي التفاوض رفضت وترفض التفاوض مع العرب فريقاً واحداً وتُصرّ على التفاوض الثنائي، أما أميركا فلا أطول من باعها في اعتماد سياسة «فرّق تسد» ومؤخراً إبان العدوان على غزة رفعت شعاراً خادعاً قد ينطلي على حسني النية مفاده «عدم توسعة الحرب».
فللوهلة الأولى يظنّ من يسمع شعار أميركا «عدم توسعة الحرب» أنها فعلاً تعمل من أجل الهدوء والسلام والأمن في المنطقة، لكن سلوكها على ارض الواقع سرعان ما يكذّب هذا الظن ويظهر ان هدف اميركا من هذا الشعار يختلف عن ظاهر الحال.
فلو أرادت أميركا الأمن والسلام العادل لكانت ضغطت على «إسرائيل» لتحقيقه، لكنها تعمل عكس ذلك وتمدّ «إسرائيل» بكلّ الأسلحة والذخائر الفتاكة وكلّ أسباب القوة من أجل ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وفي طليعتها جريمة الإبادة الجماعية التي دفعت جمهورية جنوب أفريقيا بحسّها الإنساني الى مقاضاة «إسرائيل» بموجبها لدى محكمة العدل الدولية، فأميركا لا تريد العدل والأمن والسلام لشعوب المنطقة، بل تريد الهيمنة والسيطرة عليها والاستئثار بثرواتها وقدراتها، ومنعها من امتلاك مصدر وأسباب والقوة لإبقائها في حال الضعف الذي يمكنها من السيطرة عليها.
وخدمة لهذه الأهداف ترفع أميركا شعار «عدم توسعة الحرب» قاصدة تمكين «إسرائيل» من «الاستفراد بقطاع غزة ومقاومته» وهادفة الى تفكيك هذا المشهد العملاني الاستراتيجي الذي تشكله الجبهات المتساندة في «مسرح عمليات المقاومة» المتشكل نصرة وخدمة للحرب الدفاعية التي تخوضها المقاومة، وأعتقد أنّ تفكيك هذا المشهد وشطب هذا المسرح من قاموس المنطقة هو هدف استراتيجي أميركي يتقدّم على ما عداه. فأميركا عملت ومنذ إطلاقها لما أسمته «الربيع العربي» على تفكيك محور المقاومة وقطع طرق تواصله وإمداده ولأجل هذا أقامت القواعد العسكرية غير الشرعية في سورية والعراق.
لهذا فإنّ إسكات الجبهات المساندة يشكل هدفاً استراتيجياً أميركياً لا تتساهل فيه، ويبدو أنّ أميركا اتخذت من مقتل 3 من جنودها في قاعدة البرج 22 في الأردن ذريعة لإطلاق «حرب الإجهاز على الجبهات المساندة»، حيث أنها تعتقد انّ القوة التي تملكها مع حلفائها قادرة على تحقيق هذا الغرض، ولهذا توزعت المهمة مع بريطانيا و»إسرائيل» وآخرين بحيث يتولى الحلف الانكلوساكسوني ميدانياً أمر الوضع في سورية والعراق واليمن، وتتولى «إسرائيل» مع أميركا أمر جبهة لبنان بحيث تسعى أميركا إلى حلّ سياسي يقفل الجبهة لمصلحة الأمن الإسرائيلي، وإلا تتولى «إسرائيل» معالجة الشأن بالطريق العسكري كما يهدّد وزير حربها غالنت. وقد بدأت أميركا بتنفيذ خطتها ميدانياً في سورية والعراق واليمن حيث كثفت من استعمال قدراتها الصاروخية والجوية ضدّ ما أسمته «الميليشيات المتحالفة مع إيران» أو «أذرع إيران في المنطقة»، فهل ستحقق أميركا أهدافها وتمكن «إسرائيل» من استعادة «أمن شمال فلسطين المحتلة» و»أمن خطوطها البحرية» عبر البحر الأحمر وباب المندب؟
إننا نرى ورغم القدرات التي تملكها أميركا عسكرياً وغير عسكرية، نرى أنّ السعي الأميركي الصهيوني الى فصل الجبهات المساندة عن الجبهة الرئيسية محفوف بالمخاطر أولاً؛ وغير قابل للتحقق ميدانياً ثانياً. فهذه الجبهات تعمل وفقاً لقواعد الحرب من الجيل الرابع حيث هزمت أميركا في كلّ تجاربها فيها، أما الحرب التي تهدّد «إسرائيل» لبنان بها فأعتقد انّ القرار فيها سيكون إذا اتخذ أكبر خطأ استراتيجي ترتكبه «إسرائيل» منذ إنشائها. وإذا شاءت أميركا معالجة ما تحدثه الجبهات المساندة من مخاطر عليها أن تقوم بتدبيرين الأول وقف العدوان على غزة فينتفي سبب فتج جبهات الإسناد فتغلق، والثاني التسليم بأنّ هناك يقظة في المنطقة دفنت الحلم الأميركي بإقامة شرق أوسط بهوية وشكل أميركي، وانّ محور المقاومة لن يتراجع عن هدفه «إقامة شرق أوسط لأهله».

*استاذ جامعي – باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى