أولى

غزة بحاجة إلى موقف وليس إلى جيوش

‭}‬ بشارة مرهج

منذ اليوم الأول لحرب غزة، أعلنت واشنطن موقفها المؤيد للكيان الصهيوني على كلّ الأصعدة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً. وتطوّعت واشنطن لتهديد كلّ الأطراف العربية بضرورة الوقوف على الحياد أو تأييد تل أبيب على اعتبار أنّ حركة حماس هي التي بدأت الحرب في 7 أكتوبر 2023، دون أن تعير اهتماماً للحرب المتواصلة التي تشنها “إسرائيل” على غزة وفلسطين منذ عام 1948.
وكلما كانت تل أبيب تعاني من الضيق حربياً في ميدان المعركة كانت واشنطن تزوّدها بالأسلحة والذخائر والمعدات فضلاً عن الخبرات والمعلومات والجنود والضباط خاصة سلاح الطيران والمدرّعات والاتصالات.
كما كانت تهرع لاستخدام الفيتو في مجلس الأمن ضدّ كلّ قرار دولي يلزم “إسرائيل” بوقف عدوانها الانتقامي على غزة وفتح الطرقات أمام المساعدات التي دخلت في نفق صغير يؤدي إلى تجويع الأهالي وإفراغ القطاع من الخدمات الطبية فضلاً عن الكهرباء والماء والدواء.
أما عندما كانت “إسرائيل” تُحاصَر من محكمة العدل الدولية، الجمعية العامة للأمم المتحدة، مجلس حقوق الإنسان، منظمة الصحة العالمية، اليونيسيف، سكرتارية الأمم المتحدة، المؤتمرات العربية والإسلامية، الأونروا، ومعظم الهيئات الدولية، كانت واشنطن لا تتردّد في الإفصاح عن موقفها المخزي في تأييد العدوان والتجويع وسفك الدماء حتى اضطرت بريطانيا، حليفها الأساسي، للتمايز عنها بعد الحرج الكبير الذي شعرت به، رغم انّ لندن تعرف الطنجرة وغطاها منذ وعد بلفور، الى قمع الشعب الفلسطيني طيلة فترة الانتداب، وتسليح الوكالة اليهودية وتهيئتها لتسلّم السلطة في الأراضي المقدسة، متنكرة كالعادة لكلّ العهود والوعود التي قطعتها على نفسها أمام الدول العربية والرأي العام العالمي.
ورغم مرور خمسة أشهر على الحرب الحالية فإنّ موقف الولايات المتحدة لم يتغيّر فهي لا زالت السيف بيد تل أبيب في قلب غزة كما في المحافل الدولية. أما المحاولات التي تقوم بها هذه الإدارة الأميركية فلا تعدو كونها محاولات خبيثة لإضعاف غزة واستدراج حركة المقاومة للاستسلام، إذ انّ الحديث عن اهتمام واشنطن بالسلام وكبح جوع الأطفال، الذي ينفطر له قلب الرئيس بايدن، هو حديث لا قيمة له وهدفه ذرّ الرماد في العيون وترميم صورة واشنطن المتداعية أمام الأميركيين أنفسهم كما أمام العالم كله، بعد أن سقطت سمعة الدولة العظمى في أوحال الحركة الصهيونيّة التي لم تتورّع يوماً عن القيام بالمذابح والمجازر وصولاً الى تحقيق أهدافها العنصرية التي برزت على الأرض تهجيراً للفلسطينيين من أرضهم مهما كلف الثمن ومهما بلغ امتعاض الدول العربية المحبطة من هذه السياسة الخطيرة التي تطيح بكلّ القوانين والعهود الدولية وتعيد رسم المنطقة بعد تدميرها في حروب ومنازعات تبدأ ولا تنتهي.
إنّ مواقف واشنطن واضحة وصريحة. وهي لا تهتمّ برأي العرب دولاً وشعوباً. فكلّ ما هو مطلوب بنظرها ان نخضع جميعنا للمنطق الأميركي والحكم الإسرائيلي المباشر وإلا استمرّت الصواريخ الأميركية والقنابل الفوسفورية والعنقودية بالانهمار على قطاع غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان وسورية والعراق واليمن وكلّ بلد يحاول أن يسأل الإدارة الأميركية عن أفعالها المشينة بحق الشعب الفلسطيني وشعوب الأمة العربية كلها.
تلك المواقف الأميركية المشار إليها أعلاه أصبحت بمثابة مسلمات أو ثوابت تطرح نفسها بقوة دون أن تترك القيادات الأميركية والصهيونية مجالاً للنظر فيها أو تعديلها، رغم العروض العربية المتواصلة منذ مؤتمر مدريد الى المبادرة العربية عام 2002 إلى لقاءات الدوحة وباريس والقاهرة بالأمس. أنّ الطرفين المعتديين يبحثان عن انتصار كامل في غزة وفلسطين للتوازن مع الموقفين الحاليين لروسيا والصين والانطلاق من ثم الى الانتصار عليهما بعدما صمدا في هذه الفترة عسكرياً واقتصادياً وأثبتتا قدرتهما على احتواء معظم المحاولات والهجمات التي تستهدفانهما.
أما الدول والجهات والهيئات العربية الرسمية وغير الرسمية التي اختارت النأي بنفسها عن غزة والتنكر للقضية الفلسطينية فلم يعد من الجائز لها أن تبرّر ذلك بالأطروحات البائسة التي لا تزال تعتمدها في ظلّ الموقف الأميركي الصهيوني الذي يستهدف عروبة القدس وكلّ عاصمة عربية لا زالت لديها ذرة احترام لنفسها وشعبها وتوقيعها.
حان الوقت كي تصارح هذه القيادات شعوبها والشعب الفلسطيني بعجزها عن القيام بالحدّ الأدنى المطلوب منها تجاه قضية وقفت الى جانبها دول وشعوب أجنبية وهيئات ومنظمات وأحزاب من مشارق الأرض ومغاربها.
فإذا كان المرء عاجزاً عن نصرة أخيه بالسيف أو بالكلمة أو بالغذاء والدواء والماء، فماذا يبقى من معاني الأخوة والمصير المشترك؟! وإذا كان المرء عاجزاً عن اتخاذ قرار بقطع كلّ العلاقات السياسية والديبلوماسية مع العدو الصهيوني ومقاطعته اقتصادياً وثقافياً فماذا يبقى من معاني المروءة والتقاليد العربية العريقة التي نتحدّث عنها ليل نهار فيما أيام غزة كلها حديد ونار وتضحيات في سبيل فلسطين وكل ذرة تراب عربية.
إنّ غزة ليست بحاجة الى جيوش بعد أن وضعت حداً لغطرسة أقوى جيوش العالم. غزة بحاجة الى موقف سياسي بسيط ومفيد يكون رسالة جريئة لكلّ من يعتدي على الأقصى والمقدسات، لكلّ من يصادر الأراضي المقدسة ويجعلها بؤراً للمستوطنين الأكثر تطرفاً ودموية في العالم، ولكلّ من يستهتر بالشعب الفلسطيني وينكر عليه حقوقه في أرضه وسيادته ودولته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى