أولى

قرار مجلس الأمن: النصف المملوء والنصف الفارغ من الكأس

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
الدبلوماسية بطبيعتها تجنح لاعتماد لغة مقبولة، أو غير مستفزة على أقلّ تقدير. وهذا لا يعني أن خطورتها أقلّ من بقية الأدوات التي تستخدمها القوى ذات النزعة التسلطيّة الساعية لفرض هيمنتها وبسط سيطرتها على هذا الطرف أو ذاك، بل على العكس قد يتمّ تمرير أهداف في غاية الخطورة بين سطور النصوص الديبلوماسية، بعد تكرار الإخفاق في إمكانية بلوغها بلغة المدافع والصواريخ وبقية وسائط الصراع المسلح وخوض الأعمال القتالة بأحدث الأسلحة وأشدها طاقة تدميرية. ولهذا قيل إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى. وما وجود وزير الحرب الإسرائيلي في واشنطن ولقاءاته مع مفاصل صنع القرار الأميركي بالتزامن مع صدور قرار مجلس الأمن يوم الاثنين 25/3/2024م. إلا خير شاهد ودليل على صحة ذلك، وهذا لا يقلل من أهمية القرار الصادر وإمكانية البناء الحذر عليه، وقد يكون من المفيد هنا توضيح بعض الصورة بالإشارة إلى عدد من النقاط المهمة، ومنها:
*الامتناع الأميركي عن التصويت في مجلس الأمن على قرار لا يناصر الباطل الإسرائيلي والعدوانية غير المسبوقة لحكام تل أبيب يتطلبان الوقوف عند دلالاته وخلفياته، بعيداً عن الشعور بنشوة تحقيق ما لم يكن قابلاً للتحقيق، وبخاصة أن الموقف الأميركي المستجدّ جاء بعد فظاظة أميركية متكررة باستخدام حق النقض «الفيتو» وشلّ إرادة المجتمع الدولي، ومنعه من أن يقول كلمته النافذة والمؤثرة.
*نص القرار المعتمد لم يطرح للتصويت في مجلس الأمن إلا بعد ضمان نسبيّ لقبول واشنطن بتمريره، أي أنه خضع لكثير من الغربلة، وإعادة تموضع الكلمات وصياغتها وفق نسق دلالي ملتبس في بعض الفقرات «حمالة الأوجه» القابلة لأكثر من تفسير بما في ذلك المتناقضة منها. وهذا ما أشار إليه المندوب الروسي في كلمته.
*صدور القرار بتأييد /14/ دولة، وامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت يشير إلى التوجه العام للمجتمع الدولي لم يعد يطيق صبراً على الوحشية الإسرائيلية التي ترفع سقوف إجرامها بشكل يومي ومتصاعد. ومع ذلك بقيت الأهداف التي أعلنها نتنياهو غير قابلة للتحقيق، ولعلّ هذا أحد الأسباب الموجبة لاتخاذ الموقف الأميركي كسلُّمٍ يضمن نزول نتنياهو بعض الشيء عن الشجرة العالية التي تسلقها، ولم يعد بالإمكان البقاء في أعلاها في ظلّ الأعاصير التي تهدد بإحراق المنطقة برمتها. وعندها لن يكون التبني الأميركي للوحشية الإسرائيلية مجدياً، بل قد يتفتح أبواب الجحيم على مصراعيها، ولا أحد يستطيع التنبؤ بما تؤول إليه الأوضاع القابلة للانفجار في أي لحظة.
*الالتزام الأميركي بدعم تل أبيب مطلق، وقد يكون الثابتة الأبرز في الاستراتيجية المتبعة من الإدارات الأميركية ديمقراطية كانت أم جمهورية، وبعد صدور قرار مجلس الأمن المذكور لم يتأخر المسؤولون الأميركيون عن تأكيد هذا الثابت بدءاً بالرئيس بايدن ومروراً بوزير خارجيته بلينكن وصولاً إلى بقية أركان البيت الأبيض، لا بل إنّ المندوبة الأميركية وفي معرض كلمتها في جلسة التصويت على مشروع القرار أكدت في أكثر من فقرة من حديثها وقوف واشنطن مع تل أبيب ودعمها، وعبرت عن عدم رضاها لعدم تضمين نص القرار إدانة واضحة لحركة حماس.
*النصف المملوء من الكأس هنا يتلخص في صدور قرار وقف إطلاق النار، وإن كانت الفترة المحددة لا تتجاوز النصف شهر حتى نهاية شهر رمضان، لكن مع ذلك تبقى خطوة في الاتجاه الصحيح، وإن كانت ناقصة، فضلاً عن أن القرار يطالب بضرورة دخول المساعدات الإنسانية وأهمية وصولها إلى كل أبناء القطاع من الشمال إلى الجنوب، وهذا يتعارض مع الوحشية الإسرائيلية التي تمنع دخول المساعدات، والحيلولة دون وصول النزر الذي يدخل إلى شمال القطاع، والاستمرار بتنفيذ فصول الإبادة الجماعية.
*النصف الفارغ من الكأس يظهر في أكثر في جانب، ومنها:
ـ مطالبة نص القرار بالإفراج الفوري وغير المشروط عن الرهائن من دون تحديد المقصود بكلمة «الرهائن» مع أن السياق الذي وردت ضمنه يشير ـــ وإن لم يكن بشكل مباشر ــــ إلى الأسرى عند حماس وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، في حين أن الآلاف من المعتقلين والأسرى لدى سلطات الاحتلال لا يقال عنهم رهائن، وهنا يظهر النفاق بأوضح تجلياته. ومن الطبيعي أن يتوجّس المهتمّون شراً بمثل هذه الصياغة، لأنّ الكيان الغاصب عوّد العالم على تحميل نصوص القرارات الدولية ما لا تحتمل، ويخشى أن يكون اعتماد مثل هذا النص مقدمة لإرغام المقاومة الفلسطينية على تنفيذ ما عجز جيش الاحتلال عن تحقيقه بعد مضيّ ستة أشهر من أقذر حرب وحشيّة عرفها المجتمع البشري، وتابع فصولها مكتوف الأيدي بعد تكبيل إرادته بسطوة الجبروت الأميركي سياسياً وعسكرياً ودبلوماسياً واقتصادياً إلخ…
ـ قد يُستخدم القرار لشقّ الصف الفلسطيني أكثر، ودفع الأطراف الفلسطينية لتبني طروحات متناقضة لتحميل الجانب الفلسطيني المسؤولية عن عدم التنفيذ، ناهيك عن الانحياز المفترض في التطبيق ـــ إذا كان هناك من نية بالتنفيذ ـــ ومن المهم جداً الانتباه لخطورة هذا الفخ وتجنّب الوقوع فيه، لأنه سيؤدي عندها إلى متوالية من النتائج الكارثية المحتملة.
ـ العديد من وسائل الإعلام تناقلت تصريحات نسبت إلى المندوبة الأميركية في مجلس الأمن وإشارتها إلى أنّ القرار غير ملزم، وإذا كان ذلك كذلك فهذا يعني أنّ الهدف من صدور القرار لا يتعدّى حدود امتصاص الغضب الذي شقّ طريقه إلى شوارع العواصم الأميركية والأوروبية الغربية المناصرة للعدوانية الإسرائيلية، أو لاستخدامه كدعاية انتخابية بعد أن أظهرت استطلاعات الرأي تراجع نسبة مؤيدي بايدن مع اقترب موعد الانتخابات الأميركية.
ـ ليس جديداً على حكام تل أبيب التمرد على القرارات الدولية، ومنذ زرع الكيان على الأرض الفلسطينية لم يلتزم بأي من القرارات الصادرة عن المنظمة الدولية ومؤسساتها بما في ذلك قرارات مجلس الأمن. وما يعزز هذه النظرة واضح في ما نقلته هيئة البث الإسرائيلية عن وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت، ونبرة التحدي والعدوانية التي أطلقها من قلب واشنطن بقوله: «سنعمل ضد حماس في كل مكان، بما في ذلك الأماكن التي لم نصل إليها بعد، وسنحدد بديلاً لحماس كي يتمكن الجيش من إكمال مهمته».
إن المتابع الموضوعي لتطور الأحداث وتداعياتها يدرك أن قرار مجلس الأمن لم يدفع نتنياهو وحكومته إلى مقاربة أقل عدوانية ووحشية، بل على العكس، وهذا يوحي باحتمال التصعيد في الأيام المقبلة، أو على أقل تقدير متابعة القتل والقصف والتدمير بغض النظر عن صدور قرار أممي، وإذا كان هناك من يراهن على إمكانية المضي في سيناريو كهذا مفضوح الأهداف، فعلى أنصار هذا التوجه أن يتيقنوا أن أطراف محور المقاومة لن تقف مكتوفة الأيدي، وأن رفع سقف العدوانية الأميركية وتكثيف اعتداءاتها ضد المقاومة الشعبية في العراق وسورية سيقود إلى نتيجة واحدة عنوانها: التصعيد مقابل التصعيد، وليتحمّل كلّ طرف مسؤولية سلوكياته وقرارته.
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى