أولى

سقوط المفاهيم الغربية…

‭}‬ زياد حافظ*
لم تقتصر عملية «طوفان الأقصى» على قلب المعادلات في المنطقة ومسار الصراع مع الكيان الصهيوني، ولم تقتصر على رسم آفاق جديدة للنظام العربي، بل كان طوفاناً جرف معه أكذوبة التفوّق الغربي في المفاهيم والقيم. سلوك الدول الغربية من حكومات ووسائل إعلام مهيمنة تدلّ بوضوح على النفاق الغربي في ترويج مفاهيم لا يؤمنون بها بل يفرضونها كأنها قيم كونية صالحة لجميع المجتمعات، بل لم تكن إلاّ شعارات لخداع الشعوب والسيطرة عليها.
فالعنصرية التي ظهرت في المواقف الصهيونية، والأخيرة هي فكر غربي بامتياز، وفي مواقف الحكومات والإعلام حول رفض إدانة الكيان على الإبادة الجماعية التي يقوم بها الكيان بحق أهلنا في غزّة هو أكبر دليل على ذلك. ونشير هنا إلى التصريح الأخير لوزير الدفاع الأميركي لويد اوستن أمام الكونغرس الأميركي أنه لا يوجد دليل على ارتكاب جيش الاحتلال الصهيوني جريمة الإبادة الجماعية! وهذه العنصرية تسقط الادّعاءات الغربية حول حرصها على حقوق الإنسان. فعلى ما يبدو فإنّ الإنسان صاحب البشرة السمراء أو السوداء أو الصفراء ليس من صنف البشر أو أقلّ مرتبة من الرجل الأبيض! قيادات الكيان الصهيوني كانت أكثر صراحة في اعتبار أهلنا في غزّة من الوحوش ومن غير الصنف البشري ومن الواضح أنهم يعتبرون مجموع العرب والمسلمين من صنف الحيوانات، وربما أيضاً سائر البشرية، فيدّعون أنهم «الشعب المختار» ولا تنطبق عليهم قوانين البشرية!
غير أنّ رؤية النخب الغربية لا تختلف عن الرؤية الصهيونية للعرب والمسلمين. ويتجلّى ذلك في منظومة إعلامها التي تهيمن عليه الشركات الكبرى حيث الأكثرية الساحقة لذلك الإعلام تملكها شركات لا يتعدّى عددها أصابع اليدين. ففي الولايات المتحدة ست شركات فقط تملك حوالي 90 بالمئة من الإعلام وكذلك الأمر بالنسبة لمنصّات التواصل الاجتماعي حيث عدد الشركات التي تملكها لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. فلا رأي حراً في هذه المنظومة غير رأي الذي يتماهى مع مصالح النخب الحاكمة وليس الشعوب. فسقوط الإعلام الغربي كان واضحاً في تغطية الإبادة الجماعية على الكيان وترويج سردية حكومته حول ما يحدث. صحيح أنه في الآونة الأخيرة بدأت تظهر بعض التعليقات الناقدة لسلوك جيش الاحتلال الصهيوني وذلك يعود إلى ضغط الجماهير في كافة المدن الغربية التي وصلتها صور الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال وما زال رغم التعمية للإعلام الشركاتي المهيمن. فوسائل التواصل الاجتماعي كانت الأداة لفضح جيش الاحتلال وأكاذيب الإدارة الأميركية وحكومة الاحتلال وذلك رغم محاولات تقويض إمكانية نشر الأخبار والصور التي تفضح الاحتلال. وتشير استطلاعات الرأي العام إلى أنّ أكثرية الشباب في الغرب لم تعد تكترث للصحافة وللتلفزيون كمصدر للمعلومات والتحليل بل تذهب إلى الإعلام الموازي للإعلام المهيمن. لذلك تكوَّن رأي عام مناهض للفكرة التي أرادت النخب الحاكمة ترويجها.
والعنصرية الغربية لا تنصبّ على الفلسطينيين والعرب والمسلمين فحسب بل أيضاً على كافة الشعوب للدول التي ترفض الهيمنة الغربية. وجدنا ذلك في تغطية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا حيث كانت التغطية الإعلامية الغربية لترويج سرديات وأكاذيب حول أسباب العملية وتداعياتها. واستمعنا إلى تعليقات على الهواء من مراسلين غربيين في أوكرانيا تشجب ما يحصل على قاعدة أنّ من تستهدفهم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا هم من أصحاب البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الزرق وأنّ القتال الحاصل هو من سمات شعوب غرب آسيا أيّ العرب والمسلمين.
في مطلق الأحوال هذا الإعلام الغربي روّج لسردية «الدفاع عن النفس» للكيان الصهيوني وأنّ قوّات الاحتلال تقوم بالحفاظ على قيَم «الديمقراطية» ومجمل الحضارة الغربية في منطقة يسودها التوّحش والبربرية! لم تكن أي إشارة لاحتلال فلسطين الممتد على ثمانية عقود والحصار الوحشي على القطاع لحوالي عقدين من الزمن. كما شهدنا سرديات في الكيان وفي الغرب تنظر إلى مستقبل غزّة خالياً من الفلسطينيين وموقعاً لمنتجعات سياحية وعقارية.
العنصرية الغربية التي ظهرت بدون خجل في المواقف الرسمية والإعلام الغربي في الأيام الأولى لعملية «طوفان الأقصى» أسقطت كافة الادّعاءات حول الديموقراطية وحقوق الإنسان والحيوان. فربما هذه القيم لا تنطبق إلاّ على أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرق. بالمناسبة فإنّ الديمقراطية التي روّج إليها اليونانيون في العصر القديم كانت محصورة بطبقة معيّنة من وجهاء أثينا وأقصت المرأة والفقراء والرقيق! كذلك الأمر في الولايات المتحدة حيث العمل السياسي وحق التصويت كان محصوراً بمن يستطيع دفع الضرائب فلا تمثيل دون ضرائب! ونذكّر أنّ المرأة في الولايات المتحدة لم تحصل على حقّ التصويت إلا في العشرينات من القرن الماضي. أما سويسرا، نموذج التقدّم والرفاهية والديمقراطية فالمرأة حصلت على حق التصويت فقط في بداية السبعينات من القرن الماضي!
العنصرية الغربية الرسمية ظهرت هي أيضاً في رفض العديد من الحكومات إرسال المساعدات لغزّة المنكوبة. فعند حدوث كارثة طبيعية في أيّ دولة أو نشوب حرب أهلية تؤدّي إلى نزوح السكّان كانت المؤسسات التابعة للحكومات الغربية تهبّ لإرسال مساعدات. أما في ما يتعلّق بغزّة فردّة الفعل الأولى للنخب الحاكمة في الغرب هي التأكيد على الحصار لمنع المقاومة من الاستفادة من أيّ مساعدة. وظلّت الحكومات الغربية ساكتة عن الوحشية والإبادة الجماعية بل المحرقة التي ينزلها الكيان بحق أهل غزّة.
العنصرية الغربية تجلّت أيضاً في سكوت المجتمع الأكاديمي الغربي على جرائم جيش الاحتلال وتصريحات حكومته العنصرية. لقد قتل جيش الاحتلال أكثر من 90 أستاذ جامعي في غزة كما دمّر كافة الجامعات والمدارس في القطاع ولم يحرّك الأكاديميون والمسؤولون في الجامعات الغربية ساكناً تجاه تلك الجرائم. بل وجدنا أنّ المسؤولين يحاولون منع التظاهر الطلاّبي نصرة لغزة وفلسطين ويلاحقون بعض الطلاب الذي يحاولون لفت النظر على تلك الجرائم. فأيّ حرّية الفكر يتكلّمون عنها حتى في معقل العلم ومصنع الفكر! فالفكر والعلم فقط لصاحب البشرة البيضاء علماً أنّ معظم طقوس الجامعات الغربية مأخوذة من الجامعات العربية في القرون الوسطى! فأوّل جامعة في العالم هي جامعة عربية في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي هي جامعة القرويين في المغرب التي أسّستها امرأة اسمها فاطمة الفهري!
كما لا بدّ من الإشارة إلى ازدواجية المعايير في تقييم سلوك الكيان والتغاضي عن وحشيته وإدانة كلّ من «يعتدي» عليه حتى لو كان دفاعاً عن النفس. فهذا الحق هو فقط للكيان المحتلّ ولا يحقّ للراضخ تحت الاحتلال أن يقاوم الاحتلال. فالفلسطيني إرهابي إذا قاوم الاحتلال الصهيوني، والسوري مخرّب إذا قاوم الاحتلال الأميركي لثلث سورية، والعراقي متطرّف إذا رفض وجود القواعد العسكرية في العراق. وحتى في أروقة الأمم المتحدة لم يدِن أمينها العام الاعتداء الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق بينما سارع ومعه مسؤولو دول مجموعة الجي 7 إلى إدانة الردّ الإيراني على الاعتداء الصهيوني. فهذا الردّ أصبح «اعتداء» على الكيان!
وازدواجية المعايير امتدّت لضرب حرّية التعبير في الغرب حيث مناهضة الصهيونية أصبحت من جرائم الكراهية بينما ما زالت النخب الحاكمة الغربية تبحث عن «أدلّة» حول ارتكاب الكيان الصهيوني إبادة جماعية في «حقه في الدفاع عن النفس». ومن دلائل ازدواجية المعايير في حرّية التعبير منع الحكومة الألمانية حضور طبيب فلسطيني ليلقي محاضرة بشأن ما شهده في غزّة.
أما على الصعيد القانوني فإنّ دولة من عالم الجنوب الإجمالي ومن مجموعة بريكس، وهي دولة جنوب أفريقيا، هي الوحيدة التي بادرت إلى طرح قضية الإبادة الجماعية في محكمة العدالة الدولية في لاهاي. وقرار المحكمة كان خجولاً في إدانة الكيان الصهيوني واكتفى بالإشارة إلى وجود إمكانية على ارتكاب جرائم حرب تستدعي المزيد من التحقيق رغم تصريحات المسؤولين الصهاينة والدلائل المادية الموثّقة بالصوت والصورة حول هذه الجرائم. صحيح أنّ قرار المحكمة كان خطوة نوعاً ما إيجابية وكأنه صدر تحت الضغط الشعبي المشكّك بمصداقيتها. فالعدالة هي فقط للحكم على أصحاب البشرة السمراء أو السوداء ولكلّ من يعارض قرارات الدول الغربية المهيمنة. فعن أيّ عدالة يتكلّمون وما زال الكيان يرتكب المجازر ومستمر في الإبادة الجماعية لأهلنا في غزّة وفلسطين. وما يعزّز اللامبالاة الغربية هو إفادة وزير الدفاع الأميركي أمام الكونغرس هذا الأسبوع أنه «لا توجد أدلّة عن وقوع إبادة جماعية»!
«طوفان الأقصى» قضى على منظومة «الأحكام والقيم» التي تروّج له الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كبديل عن منظومة التي يحكمها القانون الدولي والمعاهدات وقرارات مجلس الأمن. فـ «الأحكام» مبهمة تتغيّر مع مزاج ومصالح الدول المهيمنة ولا تستند إلى أي قاعدة قانونية و»القيم» ذهبت في مهب رياح «طوفان الأقصى».
ما تروّجه كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هو شريعة الغاب وعلى حساب شعوب دول الجنوب الإجمالي وكأنّ أوروبا هي «حديقة» في عالم الأدغال كما زعم وزير العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل! وبالتالي يمكن فرض «الأحكام والقيم» بقوّة السلاح على سائر الدول التي لا تريد الانصياع إلى مزاجية نخب غربية تعتقد أنها فوق أيّ اعتبار أخلاقي وقانوني. لكن الإخفاقات العسكرية في الميدان لدول الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تجعل من محاولة فرض «الاحكام والقيم» مثيرة للضحك.
«طوفان الأقصى» أظهر انقطاع معظم حكومات الدول الغربية عن الواقع بشكل عام وخاصة عن شعوبها ورأيها. فالنظام السياسي القائم في الغرب يعاني من انفصام في النظام الذي يدّعي أنه مبني على الديمقراطية بينما هو بالفعل يعمل فقط لصالح مصالح الشركات الكبرى في المجمّع العسكري الصناعي في الولايات المتحدة والشركات العملاقة والمؤسسات المالية التي تتحكّم باقتصادات الدول. فالمال حلّ مكان صوت الشعوب في التشريعات والسياسات. والعجز القائم في الدول الغربية على مواجهة التحدّيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية تنذر بالانفجار بعدما تبيّن أنّ النظام السياسي والنخب التي تحكمه لا تتماهى مع مزاج ورأي شعوبها. فـ «طوفان الأقصى» كشف هزالة القيادات السياسية التي تطلق الشعارات بعيدة عن طموحات الشعوب وفاقدة لأيّ مضمون يمكن الاقتداء به. فشعار القيادات الغربية في دعم الكيان كـ «واحة ديمقراطية» في محيط من الدكتاتوريات يسقط أمام الهجوم على التعبير المعارض لها في دولها. فكيف يمكن تفسير منع الدكتور غسان أبو ستة من دخول ألمانيا تلبية لدعوة لإلقاء محاضرة إلاّ منع لحرّية التعبير؟ وكيف يمكن تقييم تصريح رئيس وزراء بريطانيا تعليقاً على فوز جورج غالوي في الانتخابات الفرعية بشكل ساحق كأنه تهديد للديمقراطية؟ وكيف يمكن اعتبار تصريح وزيرة خارجية ألمانيا بأنها «تكترث لرأي الناخبين»؟ وماذا نقول عن خطابات هيلاري كلينتون بحق ناخبي دونالد ترامب بأنهم من «المنبوذين»؟ وماذا أيضاً عن تصريحات الرئيس الأميركي بأن من يعارض سياسات إدارته هم من العنصريين؟ ألم يصرّح مسؤول العلاقات الخارجية جوزيف بوريل أنّ فرض الرقابة على تصريحات المسؤولين الروس هو لـ «حماية الديمقراطية»؟ ألم يلغ الرئيس الاوكراني الأحزاب المعارضة له وزجّ في السجن قياداتها وحصل مع كلّ ذلك على دعم القيادات الغربية التي تعتبر أن المواجهة في أوكرانيا هي مواجهة الديمقراطية ضد التسلّط الروسي؟ الرأي الآخر يتمّ وأده بشكل واسع ومركّز في الدول الغربية؟
في آخر المطاف ما نشهده في الغرب هو انحطاط أخلاقي وفكري لا قاع له وذلك على حدّ قول الصديق البروفسور رودولف القارح. الانحطاط الأخلاقي يمهّد لزوال المنظومات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تهيمن على شعوب الغرب وحتى على شعوب العالم. فموازين القوّة تغيّرت ومن ضمن مكوّنات تلك الموازين القيم الأخلاقية ونوعية القيادات. الانحطاط الأخلاقي يتلازم مع تردّي نوعية القيادات الذي ينذر بهزيمة الغرب.
*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى