بلال شرارة… الذي صار درب تبّانة الحكاية!
فيينا ـ طلال مرتضى
على حين دهشة، أخذتني شبهة الحضور. للوهلة الأولى قلت: صَمتُ الرجل لا يعني الحكمة وحدها، وتلك العصا التي يهشّ بها ريتم تمتمات الطريق، لم تكُ يوماً عصاة النبي الذي حوّلها أفعى تسري أو سيفاً قاطعاً، يفصل بين شطرَي بيت شعر صار محض فتنة على خطّ انكسار الوزن.
لا أدري لماذا توهّلت النظر في عينيه وهو يقابلني على طاولة الكلام، لم أعِرِ البحر الهائج حينذاك أيّ ارتباك، مطمئناً كنت أسند ظهري إلى موجاته المتلاحقة. أنا أدرك وكما علّمني أبي، أنّ البحر غدّار… لكنني عندما استرقت النظر ـ على حين هفوة ـ إلى عينَي الرجل، رأيته ـ أي البحر ـ وادعاً، بل أكثر من ذلك، كانت الموجات البعيدة تتهادى عند حواف رمشه مثل طفل تهدهده أمّه في سرير غوايتها.
هناك، في الفصل البعيد من الجغرافيا، حيث صار البحر ذاته مثل قوسين محدودبَي الظهر، يسدّان درب المعنى لـ«جملة اعتراضية».
هناك، عند مفاز اللهفة، نسيت عن سابق عطر مفاتيح لوعتي.
«الوقت» أيضاً كان قاب قبلتين ونصف عناق أو أشهى، من بعد وصول حادي الحكاية. ذاته الوقت لا يستقيم إلا بعد أن تتهادى «منقوشة الصعتر»، لتكون فاتحة أولى، صول الحكاية الآيلة إلى السمو على سلّم موسيقى اكتمال النصاب.
«المكان»، حيث حبا الله تلك البقعة، بالماء والفيء والوجه الحسن، الله المتخفّف من عنجهيته، حين يصير الحديث عن الجمال، يتنزّل وملائكته بالرحمة لعابري المدينة الناهجين صوب جهة الجنون.
كانت قهوة الحديث المهيّل تغلي على أحرّ من الشعر، يعكّر صفوها بين الفينة والفينة، كثبان الدخان التي تحرّكت من صحراء سيجار جودت فخر الدين. لم يحصل هذا اعتباطاً، كلّ أصابع الشهوة ذهبت حينذاك بالكنايات إلى عصام العبد الله، عندما رمى «بحجر» عماد شرارة سبّحة المقال:
«بتظلّك كبيرنا».
لعل الصوت أعلاه كان كافياً لاستشفاف المغزى، عماد شرارة لا يتصيّد من البحور الهادئة إلّا الدرّ المكنون، هكذا نكزتني الفطرة الأولى.
صرفت النظر عن جسد حسناء وهي تدلف ماء البحر كحورية، على لهج تأتأة الحروف في ريقي:
«منه وإليه تعودين»… قلت.
تماماً… وقتذاك، كانت أصابع خيرات الزين ترسم على ضجيج الطاولة، ظلّ امرأة عارية اغتصبت عن سابع اشتهاء بحر بيروت، الذي نزف ملح رغبته زبداً قبالة «الحمّام العسكريّ» عند ظهيرة ذاك اليوم.
كلّ الحكايات تداعت تباعاً على غير تدبير، ناجي بيضون الذي وصل تحت مظلّة من حريق الشمس، نزّت بدلته الناصعة البياض عرق المسير، لم يدرِ للحظة ـ وهو يعبّ الجرعة الأخيرةو من زجاجة الجعة المثلّجة ـ أنه وقع صريعاً في شرك الارتجال، وقت غرّد المير طارق آل ناصر الدين تغريدة عابثة، ردّدها مثل نسمة اخترقت ظلال أشجار «روضة بيروت» على حين هفوة، قال:
«ناجي… اللي بحبّو كتير…
هلّق من حدّي.. مرق
محروق من حرّ الشمس
مثل ما قيس بالحبّ احترق
حامل بإيده بيرة مثلجة
وتارك قميصه سكران ينزف عرق».
لعلها الفرصة أتت ولا ريب فيها، على حين هرج المقال ومرجه، كان عصام العبد الله يصيخ النظر في طيّ بستان الزجل:
«حلو… حلو يا مير».
ما كان عليّ إلا أن أفسد ودّ خلوة داود الزر، كي أقف على رأس الوقت:
«داود… مين هيدا أبو عكّازة؟»… سألت.
«بلال شرارة»… أجاب.
الكلمات لا تحتاج إلى شرح، لم يسكن منذ 15 سنة سالفة، طيّ صفحات الصحف، وبنى من أبراجها أمنيات زائفة، لكتُ الاسم في فمي بعناية السؤال: «كنت أظنه كبيراً جداً… ليس مثل كل الذين أعرفهم!».
يا الله… تلك صدمة تنتابني حين التقي وجهاً لوجه مع بطل من أبطالي، عرفته على سطور الصحف والمجلات، كلّهم كانوا لا يشبهون الثورات التي يلهبونها مفاز عقولنا.
بلال شرارة عرفته رجلاً جلموداً يهزّ جدع اللغة ـ كيفما يشاء ـ ليساقط منه رطب المعنى، ما له وما لتلك العكازة البائسة، عرفته ثراً وهو يملي على قارئه خارطة الطريق، يرسم له درب تبانته، حتى أنه كان يأخذ بنات الأفكار من رؤوس أصاحبها، يغرّر بها، ليخلو بها وحيداً وراء جبال بنت جبيل حيث تنام الشمس كل يوم هناك عند المغيب.
نعم. هو ذا بلال شرارة الذي ما فتئ من نَصب فخاخه على درب القمر المنحدر بهدوء ليستحمّ على شواطئ صور، ذاته القمر الذي صنع منه ألف… ألف قصيدة علّقها كلّها في جيد الفاتنات.
اليوم يا سيّدي، صار القمر المخاتل عرجوناً، بعدما تشظّت المواويل والشمس التي كانت تنام وراء الجبل تبحث عن مستقرّ لها في بيت شعر ظلّ شاعره نهج بلاغته بعد أن صار أسير حورية الفكرة.
الحقيقة التي لا تواربنا ونواربها، سنون العمر، تلك هي جنى الحال، كان وما زال سهلك الممتلئ بالسنابل الحانيات الرهافة، كأصابعك التي ما توقفت لبرهة عن فتنة إثارة اللغة. كيف لا وهي كما قلت سالفاً: «بين أصابعك سبّحة دعاء».
كل سنة وأنت الرفيق على درب الحرف… سيّدي.