احتواؤها اللغة والكلمة زاد الثقافة انسياباً وحقيقة المرأة في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب تشقّ طريقها نحو اتجاه جديد يجتاز القيود والعادات البالية
رنا صادق
حلقة متتابعة تستمرّ المرأة من خلالها في إثبات دعامات حضورها يوماً بعد يوم. إثبات ليس على مستوى الحضور والتواجد فحسب، بل من ناحية التأثير والتفاعل، بين المرأة الكاتبة وكلّ ما حولها، وما يحيطها.
عزمت تلك الكاتبة، الشاعرة والروائية على الإصرار، حاربت وحوربت، كافحت وصبرت إلى أن أصبحت ركناً صلباً صعب التحطيم، بل عنصر مخطّط يتخذّ القرارات من دون الحاجة إلى التبرير والإفصاح، لكنّه لا يتخلّى عن التشاور والتباحث خصوصاً مع الجنس الآخر، لأنّ التفاعل معه وإبراز حضورهما معاً مكمّلّ لمسيرتها.
تكون بذلك النساء الرائدات اللواتي أنجبن من أراحمهن الحضارة والمستقبل، قادرات على صنع الحقّ من خلال المحبّة، الأمومة والكلمة. تصنعن بذلك إكليل وردٍ مزهرٍ بثقافة ممزوجة بالسلام والإحساس المرهف.
مع افتتاح معرض بيروت العربي الدولي للكتاب بنسخته الـ61، تترافق النساء على جوانب وأطراف كلّ دار، والتجوّل بين زوايا المعرض. توقيعٌ لكاتبة هنا، أمسيةٌ لشاعرة هناك. ينشرن مخزونهن المدعّم بالثقة والثبات، يتحدثّن تارةً عن تجاربهن في الكتابة، وطوراً يتشاركن الأفكار حول أعمالهن المستقبلية.
هذا المعرض ليس واجهة أعمال فحسب، بل هو واجهة تقدير لعدد من الكتّاب والشعراء والأدباء، كما هو صلة وصل بين النساء الروائيات والشاعرات مع أخريات من العالم العربي. بطبيعة الحال، فإنّ المرأة قد استلمت على مشارف عام 2018 من القرن الواحد والعشرين، موقعاً داعماً وبصمة أدبية مجتمعية باهرة.
لهذا الظهور المكثّف المعالم للمرأة من خلال حضورها في المعرض دلائل وبراهين، وحاجات اجتماعية وثقافية ضرورية. في ما يخصّ الشقّ الأول من الطرح، خلال عدّة جولات في المعرض خلال يومه الثاني، يبرز تفاعل المرأة القويّ من خلال حضورها كبطلة في مئات آلاف الكتب الأدبية والشعريّة كأنثى، حبيبة، أمّ، ثائرة وعالمة. في الشقّ الثاني من الطرح، يعود إلى ضروريّات حضور المرأة الفعليّ، أو تواجدها كبطلة رواية، في ازدياد الحاجة إلى إحساس المرأة وحنكتها، واعتبارها عنصراً لا يمكن الاستغناء عنه في نواحي الحياة كافّة. فلا يحقّ لأحد أن يمتعض من هذ التواجد أو أنّ يقلّل من هذا الشأن الذي تناله المرأة بجدارتها وقوّتها في الكتابة.
تنوّعت الكتابات التي تحكي ألم المرأة وحزنها، ذلك المخلوق الممزوج بالحبّ، الرحمة، الصلابة والإصرار هو ما جعلها طرحاً كموضوع أساس في الكتابة. كما برزت المرأة في كتب الأطفال وحكايات الصغار، حيث يُسلَّط الضوء على قوّة الأمّ ومهارة المدرّسة وإنسانية الطبيبة.
رغم ذلك كلّه، ما زالت المرأة حتى اليوم تكافح من أجل الحصول على حقوقها السياسية والاجتماعية البديهية، كحقّ إعطائها الجنسية لأطفالها، وحقّها في أنّ تُطرح فعلياً في المعترك السياسي بحسب كفاءتها، وحقّها في المشاركة في صنع القرار. وإن كانت المرأة اليوم قد اجتازت أشواطاً في الكتابة والشعر، إلّا أنّها ما زالت تحارب للحصول على دورها كاملاً، ولا يكمّل هذا الدور إلّا من خلال صنع القرار السياسي الثقافي الاقتصادي والأسري ككلّ.
هيبات عبد الصمد
خلال الجولة في المعرض، التقت «البناء» عدداً من النساء الرائدات في مجال الكتابة والشعر.
بدايةً، كان لقاء مع الكاتبة الدكتورة هيبات عبد الصمد في جناح «دار نلسن»، حيث كانت توقّع كتابها بالإنكليزية «Lessing and sufism»، والذي تشير من خلاله إلى دوريس ليسينغ وعلاقتها بالتصوّف، إذ إنّ الكتاب عبارة عن ماورائيات وفلسفة وتصوّف. ركّزت عبد الصمد خلاله على دخول التصوّف العالمَ الأوروبي وتأثّر الناس به. يحكي الكتاب عن ليسينغ الحائزة على جائزة نوبل للسلام عام 1980، التي كانت عنواناً للمرأة العاملة والفاعلة، التي عملت وتميّزت. من هنا دور المرأة يظهر مكثّفاً في كتاب عبد الصمد. كما يبرز مدى تعلّق المرأة بإيديولوجيات منذ الخمسينات، حيث راحت تتطوّر مع تطوّر هذه الإيديولوجيات واختلافها، والتصوّف منها، اعتنقته المرأة كوسيلة للهروب من الواقع والذات، ومن كلّ المراحل وخيبات الأمل التي مرّت بها أوروبا.
تشير عبد الصمد إلى أنّ ليسينغ في إحدى المرّات، قد سُئلت عن سبب تركها الشيوعية واللجوء إلى التصوّف، فردّت: «من منّا لم يكن؟» وتقصد هنا أنّ فشل تلك الإيديولوجيا جعلها تلجأ إلى أقرب إيديولوجية من الشيوعية وهي التصوّف على يد شاه إدريس المتصوّف الداعية في أوروبا.
وتضيف عبد الصمد: الجدلية التي طرحتها في الكتاب أنّ ليسينغ هي ليست متصوّفة بل حاولت الهروب من واقعها لكي تجد وجودها كامرأة. لأن المرأة لم تأخذ مئة بالمئة بصلابة دورها في المجتمع الفعّال مع العلم أنّها أخذت كل الدور.
تشير عبد الصمد إلى أنّها لاحظت أنّ غالبية زوّار المعرض من النساء، كذلك المشاركات، لديهن جديّة واهتمام قويّان باللغات والعلم والثقافة، لأن غالبيتهن دخلن معترك الحياة والجوّ المهني والاقتصادي. لذا، نراها في تطوّر مستمر، ويضعها هذا التطوّر في موضع الأساس. كما أنّ دور المرأة كدور الرجل والعمل بينهما لبناء مجتمع جيد هو أمر محتّم وضروري. فإذا قصّر أحدهما في دوره، يبرز خلل في مكان ما، على شكل آفة أو مشكلة اجتماعية.
ناهد فرّان
أمّا ناهد فرّان، الشاعرة الواعدة التي تحمل على كتفها سلاح النجاح كامرأة عاملة وأمّ وزوجة، فستوقّع الجمعة المقبل الساعة الخامسة مساءً روايتها «رحمة» في جناح «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون». تتحدث أحداث الرواية عن تداعيات الحروب في المنطقة العربية على الأسرة والمجتمع من خلال سرد ما حدث مع «رحمة» اليمنية و«ياسمين» السورية و«جيلان» العراقية، وصولاً إلى اجتماعهن في لبنان والمتاجرة بهن من قبل سماسرة الحروب.
وتقول فرّان: لا فرق بين كاتب وكاتبة أو بين امرأة ورجل في عالم الأدب. هذا ما أعتقده وما أردّده دائماً، فكلاهما إنسان يحبّ ويعشق ويفكّر ويتأثّر ويتفاعل مع كلّ ما يحدث معه وما يحيط به ليعبّر عن ذلك بقلمه.
الكتابة عمل إنساني يتمّ من خلالها تدوين وعرض مشاعر وأفكار ومعتقدات شخص ما على الورق، سواء كان ذاك عبر الشعر أو النثر أو الرواية أو أيّ شكل آخر. إذ توضح فرّان أنّ للمرأة اليوم دوراً فاعلاً ومؤثّراً تقوم به من خلال نشاطها في المجتمع. وبالتالي من خلال الكتابة، زال هاجس الخوف من نظرة المجتمع وكلام الناس، فالصمت المطبّق انتهى. والمرأة اليوم صوت وقلم وحروف معبّرة وقدرة تأثير، وصوت ضدّ الظلم، وسلاح ضدّ العنف وانتهاك الحرّيات، هي بمثابة محرّك أساس ضد أي انتهاك وسوء معاملة.
نعمت الحاموش
أمّا الكاتبة نعمت الحاموش الحائزة على دبلوم دراسات عليا في الأدب العربي، فوقعّت كتابها «مرساة في رمال» الأسبوع الفائت عن «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون» وهو كتابها الثالت على التوالي. يحكي الكتاب قصة حبّ غريبة بين أستاذ وتلميذته، وترافق هذه القصة أحداث من الحرب اللبنانية ومآسي العائلات اللبنانية ومعاناتها. فالكتاب متنوّع بين الوفاء الصداقة، إضافة إلى الموضوعين الأساسيين «الحبّ والحرب».
وتشير الحاموش إلى أنّ المرأة تُقبِل بشكل مكثّف على القراءة، طالما أنّ الكتاب من أكثر الوسائل التي تعتمد على صدق الإحساس وتعطي كلّ ذي حقّ حقّه. كما أن النساء ينجذبن نحو الكتابة التعبيرية من أجل تحقيق ذواتهن وإثبات أحاسيسهن ونشرها للعلن.
لاقى كتاب الحاموش الأول «الرجل والوحش» إقبالاً كبيراً من النساء كونه يحكي عن العنف ضدّ المرأة، وهي مشكلة ما زالت قائمة حتّى الآن، وتعاني منها نساء كثيرات. وبطبيعة المرأة، هي تنجذب نحو كلّ ما يلمسها حقيقةً وواقعاً، لذا نشهد هذه النهضة للكتاب في هذا الوقت. وتعرف المرأة بإحساسها لذلك تكون كتابتها أرقّ واختيارتها للقراءة أقرب إلى الذات.
ثريا عاصي
ثريا عاصي، الإعلامية الصلبة الصلدة القويّة، والكاتبة المفعمة بالحسّ المقاوم، تعتبر أنّ الفرق بين الجنسين لا يزال كبيراً بين حضور المرأة وحضور الرجل في المناسبات الثقافية كمعرض الكتاب. ظاهرياً حضورها إلى تحسّن، إنّما من حيث المحتوى والدور، فالمسألة تحتاج إلى بحث.
وتضيف عاصي: ليس المهم أن يكون الكاتب أو الكاتبة امرأة أو رجل، فالمهم هو ما يحمله الكتاب بين دفّتيه من فكر يقدّمه إلى القارئ. نحن على مشارف عام 2018، يجب ألّا نظلّ ندور في دوامة المفاضلة ما بين الرجل والمرأة، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالفكرة. وأرى أنّه لا لزوم للاستمرار في الدوران في حلقة مفرغة. وبهذه الحال، هل للذكور حقوقهم وحرّيتهم؟ إذ لا حقوق مدنيّة محترمة بالكامل، لا حقوق لأحد. المسألة مسألة حقوق إنسان بمعزل عن جنسه ذكراً كان أم أنثى، وليست مسألة حضور في هذا المعرض أو ذاك الاحتفال، فالحرّيات العامة والحقوق الفردية هذه أمور مطلقة وعامة وشاملة ولا تمييز فيها.
مسألة الحضور هي في الشكل وغياب في الجوهر. الجوهري هو التمتّع بالحرّيات العامّة والحقوق الفردية دونما أيّ تمييز بحسب رأي عاصي.
وتجدر الإشارة إلى أنّ عاصي ستوقّع الإثنين المقبل 11 كانون الأول ، كتابها «حكاية حرب»، وهو عبارة عن مجموعة مقالات عن الحرب التي شُنّت وما زالت تُشنّ على سورية، كُتبِت ما بين عامَي 2011 و2016 . الكتاب لاقى رواجاً مشجّعاً جداً، فما يحصل في سورية قضية حياة أو موت. قضية وجود ولا يجوز النظر إلى سورية من أيّ منظار غير هذا المنظار.
كما ستوقّع عاصي كتاب «القضية الفلسطينية في مئويتها الثانية» في التاسع من كانون الأول، وتقول: «إنّ القضية الفلسطينية تظلّ هي الموضوع المركزي الذي يتوقّف عليه مصيرنا، إذ إنّ أيّ تخلٍّ بالنسبة إلى فلسطين يبقينا داخل حلزونة الهزائم التي لا خلاص منها. مصيرنا يتوقّف على التزامنا الكامل والواضح وغير القابل للتأويل بحقنا بفلسطين، وكل ما أصابنا من انحطاط وضياع منذ 1948 يعود إلى عدم الوضوح الكامل والمطلق بفعل تمسّكنا بحقّنا الوطني والقومي.
منى مشون
وأخيراً، التقت «البناء» الشاعرة والكاتبة منى مشّون، الحائزة على إجازة في العلوم السياسية، وفي رصيدها ديوان شعر «الثورة الأنثى» وغيره من الكتب.
ترى مشّون أنّ المرأة مندفعة نحو الكتابة والتعبير عن ذاتها، في حين أنّها لم تحسب يوماً أنها ستكتب، إلّا أنّها بدأت كتابة أفكارها وخواطرها لنفسها، ووجدت أنّ هذه الكتابات تصلح لأن تكون كتاباً، خصوصاً أنّ أفكارها ثوريّة لإطلاق العنان لنفسها ورفض واقعها المتراجع والعادات والتقاليد التي تكبّلها في المجتمع.
وتشدّد مشّون على أن المرأة قادرة على التأثير في المرأة الأخرى من خلال الكتابة. فحين ترى الأخيرة أنّ غيرها من النساء يكتبن، وينطلقن نحو ذواتهن ويرفضن القيود الظالمة، تتشجّع نحو التحرّر والكلام والتعبير. فالنساء يشجّعن بعضهن في أفكار الكتابات، حيث باتت كتابات جريئة لم يسبق أن تباحثت فيها من قبل.
المرأة في معرض الكتاب
ختاماً، تجدر الإشارة إلى أنّ المرأة ملأت معرض الكتاب حضوراً آسراً ولألاءً. من خلال الكتب التي تتحدّث عنها، ومن خلال كوكبة من النساء الكاتبات والشاعرات، ولا ننسى الناشرات اللوات خضن تجربة النشر ونجحن. وأخيراً، يبقى الحضور الأقوى للمرأة القارئة، التي ما زالت عاشقة للكتاب مهما تقدّمت التكنولوجيا ووسائل التواصل والاتصال.