فصح سريلانكا الدموي… والبصمات الأميركية
حسن حردان
في يوم الاحتفال بعيد الفصح المجيد واحتشاد المؤمنين من أبناء الشعب السريلانكي، في الكنائس وأماكن العبادة والفنادق، أقدمت قوى التطرف والإرهاب التكفيري على زرع العبوات الإرهابية وتفجيرها في ثمانية تجمعات في توقيت واحد مما أدّى إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى من المواطنين… لقد أريدَ من وراء هذا التزامن والتوقيت والاستهداف إيقاع أكبر عدد من الضحايا لإحداث حالة من الرعب والهلع على نطاق واسع في صفوف المسيحيين من أبناء الشعب السريلانكي، وبالتالي إثارة الفتنة عبر توجيه الاتهام إلى إخوتهم من أبناء الطوائف الإسلامية أو البوذية وغيرها من فئات الشعب، واستطراداً دفع سريلانكا إلى أتون الحرب الطائفية والمذهبية والفوضى والاضطراب على غرار ما حصل في ليبيا والعراق وسورية…
المسألة لا تحتاج إلى الكثير من التحليل والتدقيق والتمحيص لمعرفة من يقف وراء مثل هذه الجرائم الإرهابية والأهداف المبتغاة منها… إنها إدارة العدوان والإرهاب العالمي في واشنطن، المسؤولة عن صناعة الجماعات الإرهابية ودعمها وتمويلها وتدريبها، باعتراف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون ، وتوجيه أعمالها، وتوقيت تنفيذ جرائمها خدمة لمخططاتها الاستعمارية، في السعي إلى إعادة فرض هيمنتها المتداعية على العالم، ومنع تحرّر هذا العالم من قبضة هذه الهيمنة الأحادية، الناهبة والسارقة لثروات الشعوب، والمستغلة لها أبشع استغلال.. لقد أدّت هذه السياسة الأميركية في الاستثمار في الإرهاب إلى تنامي قوى الإرهاب التكفيري والتشجيع على التطرف وتغذيته في كلّ الطوائف التي تتكوّن منها الشعوب في دول العالم، وبالتالي دفع بعض من اعتنق هذا الفكر المتطرف الإرهابي المحرّض على القتل للآخر، لمجرد انه ينتمي إلى طائفة أو ديانة أخرى، إلى ارتكاب الجرائم الإرهابية في العديد من دول العالم، وهو ما شاهدناه مؤخراً في نيوزيلندا وقبلها في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا وحتى في الولايات المتحدة، فإلارهاب لا لون ولا دين له…
لماذا استهدف الإرهاب سريلانكا… ومن يقف وراء الهجمات الدموية البشعة في يوم عيد الفصح؟
قد يستغرب الكثيرون أن يحصل ما حصل في سريلانكا البلد الذي يحرص نظام الحكم فيه على عدم الانحياز إلى محور من المحاور الدولية، وهو يبني علاقاته الاقتصادية مع جميع الدول لتحقيق التنمية، واستقطاب السياح، لا سيما أنّ سريلانكا معروفة بأنها بلد سياحي بامتياز وعائداتها من السياحة تشكل أحد أهمّ المداخيل الأساسية من العملات الصعبة، إلى جانب صادراتها الزراعية من الشاي والبن… ومعروف أنّ سريلانكا ترتبط بعلاقات جيدة مع كلّ من الولايات المتحدة والصين.. لكن في الآونة الأخيرة حصل تطوّر هامّ في علاقاتها مع الصين تجلى في حصول الأخيرة على عقد باستئجار وتطوير ميناء استراتيجي في هامبانتوتا الواقعة عند أنشط طريق شحن يصل بين الشرق والغرب في العالم، ما يؤمّن للصين موطئ قدم استراتيجي في هذه المنطقة الحيوية المهمة في سياق المشروع الصيني الاقتصادي الكبير لإعادة إحياء طريق الحرير، والذي تطلق عليه بكين اليوم، «الحزام والطريق»… هذا التطوّر نظرت إليه واشنطن بقلق لأنه يطيح بخططها لمواجهة تنامي وتوسع نفوذ الصين، التي أصبحت قوّتها الاقتصادية، الصاعدة إلى القمة، تشكل أكبر تحدّ للقوة الاقتصادية الأميركية، التي تشهد تراجعاً ملموساً في هيمنتها على الأسواق العالمية، نتيجة المنافسة القوية التي تواجهها المنتجات والسلع الأميركية من قبل مثيلاتها الصينية، التي باتت تغزو وتكتسح الأسواق في آسيا وأفريقيا، وحتى في الولايات المتحدة نفسها، ما دفع ترامب للعودة إلى اعتماد سياسة الحمائية عبر رفع الرسوم على السلع الصينية المستوردة.. على أنّ القلق الأميركي من تطوّر العلاقات الاقتصادية والتجارية بين سريلانكا والصين، اضطر واشنطن إلى التراجع عن قرار سابق بوقف التعاون العسكري مع سريلانكا، والذي تجسّد في وقف مبيعات الأسلحة الأميركية إليها خلال حرب التاميل الانفصالية التي انتهت عام 2009، فأعلنت الولايات المتحدة، مؤخراً، أنها ستمنح سريلانكا تمويلاً عسكرياً قيمته 39 مليون دولار لتعزيز أمنها البحري.. وقالت السفارة الأميركية في كولومبو إنّ وزارة الخارجية الأميركية ستقدّم هذه الأموال كتمويل عسكري خارجي بانتظار موافقة الكونغرس.. وأضافت: «نتطلع إلى أن نناقش مع حكومة سريلانكا كيف يمكن لهذه المساعدة دعم مبادرة خليج البنغال وأولويات سريلانكا المتعلقة بالمساعدة الإنسانية والاستجابة للكوارث».
ويبدو من الواضح أنّ استئناف المساعدات العسكرية الأميركية إنما يندرج في سياق سعي واشنطن إلى التصدّي للنفوذ الصيني المتزايد في هذه الجزيرة الهامة الواقعة على مفترق طرق بحري دولي بين الشرق والغرب.. غير أنّ الإدارة الأميركية تدرك بأنّ هذه المساعدة رمزية، حتى ولو جرى رفعها إلى 300 مليون دولار، وهي ليست كافية لدفع الحكومة السريلانكية للاستغناء عن المساعدات الصينية الكبيرة غير المشروطة، والتي تسهم في تطوير الموانئ السريلانكية والتخلص من عبء الديون المترتبة على سريلانكا للصين، وقيمتها 1،4 مليار دولار… وفي ظلّ السياسة الأميركية في عهد ترامب والقاضية بابتزاز الدول التابعة لواشنطن للحصول منها على الأموال لمعالجة الأزمة الاقتصادية الأميركية، فإنّ واشنطن لن تكون قادرة على منافسة بكين في تقديم نفس الحجم من المساعدات المالية لسريلانكا، ما يعني أنّ السعي الأميركي لاحتواء سريلانكا وإضعاف علاقتها مع الصين، يحتاج إلى وسائل وأدوات أخرى مساعدة وأكثر فعالية وأسرع في تحقيق هذا الهدف الأميركي.. وبما أنّ واشنطن ضليعة في استخدام أدوات الإرهاب لإخضاع الدول التي تنتج سياسات مستقلة، أو تعتمد سياسات متوازنة في علاقاتها الخارجية، وبما أنّ هناك موروثاً من الصراع الداخلي في سريلانكا التي تتميّز بتعدّد وتنوّع سكاني، وهناك حديث عن وجود صراع داخلي تتغذى منه القوى المتطرفة في البلاد، وجدت واشنطن أنّ التربة خصبة للدخول على الخط للاستثمار في هذا الصراع وهذه التربة، عبر دفع الجماعات الإرهابية لتنفيذ مثل هذه الهجمات الإرهابية في يوم عيد الفصح، ووضع سريلانكا على حافة الانزلاق إلى مستنقع الاضطراب الداخلي وعدم الاستقرار مما يؤثر سلباً على السياحة والاستثمار فيها واستطراداً على الاستثمار الصينية، ويوفر الأرضية للإدارة الأميركية لكي تتدخل في الشؤون الداخلية عبر الإعلان عن استعدادها لتقديم المساعدة الأمنية لمواجهة هذا الخطر الإرهابي، تماماً كما فعلت بعد أن مكّنت داعش من الانتشار والسيطرة على أراض واسعة في سورية والعراق لتبرير التدخل العسكري في سورية ومدّ يد المساعدة المشبوهة إلى العراق لمحاربة داعش، لكن بشروط… ويبدو من الواضح أنّ واشنطن قد بدأت تنفيذ خطة خطيرة لابتزاز الحكومة السريلانكية ودفعها الى طلب المساعدة الأمنية الأميركية لمواجهة خطر الإرهاب، وهذه الخطة تمثلت في مسارعة وزارة الخارجية الأميركية إلى التحذير من سفر جماعات إرهابية إلى سريلانكا وانّ إرهابيين قد يشنّون هجمات دون سابق إنذار يذكر أو دون إنذار على الاطلاق، وانّ من بين الأهداف المحتملة أماكن سياحية ومحطات وسائل النقل ومراكز تجارية وفنادق وأماكن عبادة ومطارات ومناطق عامة أخرى.. واضح انّ هذا البيان للخارجية الأميركية إنما هو بمثابة إنذار أميركي وتهديد مبطن للحكومة السريلانكية من أنها إذا لم تقبل أو تطلب المساعدة الأميركية وبالتالي تستجيب لشروط واشنطن في الدخول في تحالف أمني مع أميركا لمواجهة خطر الإرهاب، فإنّ سريلانكا ستتحوّل إلى مسرح للهجمات الإرهابية وتعمّ الفوضى فيها وتضرب قطاع السياحة، وتقضي على مشاريع الاستثمار في البلاد.. لذلك كله ليس من المستغرب أن تكون البصمات والأصابع الأميركية وراء التفجيرات الإرهابية التي استهدفت الكنائس والفنادق في سريلانكا في عيد الفصح، في سياق مخطط أميركي لإعادة فرض السيطرة الأميركية على هذا البلد وإقصاء النفوذ الصيني عنه…
كاتب وإعلامي