نستخدم الخيال لفهم العالم وفهم أنفسنا

جورج كعدي

عدم الرضى سمة بشريّة بامتياز وأطلق عليه أنطوني ستور في كتابه «ديناميّات الإبداع» صفة «السخط المقدّس». هذا السخط جعل الإنسان يتكيّف مع العالم من الناحية البيولوجيّة فاستخدم خياله لاستكشاف إمكانات جديدة. كلّ بشريّ يستخدم خياله على نحو ما، ولا أحد يكتفي بإشباع حاجاته الطبيعيّة، مثلما هي حال الحيوان المتكيّف مع بيئته. وخيال الإنسان هو من النوع الجامح الذي يلتهم الحياة بلا توقّف، ولا يهدّئه سوى الانشغال بعمل ما. ويستخدم البشر خيالهم في اتجاهين، الأول بحسب فرويد هو الهرب من قسوة الوجود الفعليّ إلى أحلام اليقظة التي تتحقّق فيها الرغبة. والثاني هو استخدام الخيال بطريقة أفضل لفهم العالم وفهم أنفسنا، أو إبداع أعمال ترمز عن طريق التأليف بين الأضداد لتركيبات جديدة داخل الشخصيّة.

النفس البشريّة منقسمة على ذاتها بدرجات متفاوتة، وجميعنا مدفوعون إلى البحث عن وحدة لا نحقّقها البتّة، والوسيلة الأولى والأوضح التي يمكن اللجوء إليها لتحقيق هذه الوحدة إنّما هي: الحبّ. يعزو أفلاطون في «المأدبة» إلى أريستوفان الكلام الذي يفترض فيه أنّ البشر كانوا في الأصل وحدات مكوّنة من ثلاثة أجناس هي الذكور والإناث والمخنّثون، وبسبب غطرستهم شطرهم زيوس إثنين، لذا كان البشر جميعاً مرغمين على البحث عن نصفهم المفقود لاسترداد وحدتهم الأصليّة، ولذلك كان الحبّ هو «الرغبة والسعي نحو الوحدة الكاملة».

بيد أن الرغبة والسعي نحو الوحدة وحدة هذا الكائن المنشطر يمكن البحث عنهما بطرائق أخرى غير طريقة الوحدة الجسديّة مع المحبوب. وتقوم فكرة يونغ حول التفرّد على البحث عن الوحدة داخل نفس الفرد، أي المصالحة بين الضدّين، الوعي واللاوعي. وتتميّز عمليّة الإبداع في الفنون والعلوم غالباً بالبحث عن تأليف جديد بين الأفكار التي كانت تبدو ماضياً مختلفة أو منفصلة إلى حدّ بعيد. فالهدف المشترك للعلوم والفنون هو البحث عن النظام في التعقيد، والوحدة في التنوّع. عندما يحلّ الرسّام أو الموسيقيّ مشكلة جماليّة، فإنّ كلاًّ منهما يشارك في البهجة نفسها التي توصف بتجربة أرخميدس الذي خرج من حمّامه عارياً وصائحاً «وجدتها» إذ اكتشف طريقة يحدّد بها نقاء الذهب في تاج ملك سيراقوزه عبر تطبيق مبدأ الثقل النوعيّ ويستمتع العلماء بهذه «الصرخة» لدى توصّلهم إلى اكتشاف جديد.

يبدو معقولاً افتراض أنّ الذين تدفعهم الرغبة القويّة في بحثهم عن الوحدة والنظام، سواء في الفنون أو في العلوم، هم أنفسهم معرّضون للانقسام على أنفسهم. والفكرة هذه قد تؤدّي إلى حسم السجال الدائر حول العلاقة بين العبقريّة والأمراض العقليّة. فالعباقرة، رجالاً ونساءً، غالباً ما يقعون تحت تأثير صراعات تدور حول ذواتهم وتفضي بهم إلى الإحساس بالتعاسة والقلق وعدم الرضى، إلاّ أنّها تمنحهم في الوقت نفسه قدرة على التخيّل والتساؤل واللهفة على اختبار مباهج الوحدة والتركيب، وطالما هم قادرون على متابعة البحث والدأب على عملهم فإنّهم غالباً ما يحمون أنفسهم من مختلف أشكال الانهيار العقليّ. أمّا إذا خذلتهم قدرتهم على العمل أو رفض عملهم وكانوا مفرطي الحساسية بسبب هذا الرفض، فقد يؤدّي ذلك إلى الاكتئاب أو إلى شكل آخر من أشكال الأمراض العقليّة.

أحد أسباب ارتباط العبقريّة بالجنون يعود إلى العصور القديمة ويقوم على الخلط بين الجنون والإلهام. ألا يقول الفيلسوف الروماني المشهور لوسيوس سينيك القرن الرابع قبل الميلاد في حواريّته عن «سكينة النفس»: «لا توجد البتّة موهبة Ingenium عظيمة بلا مسّ من جنون dementia». ويرى البعض أن لكلمة dementia هنا معنى الإلهام الدينيّ، أو «الجنون المقدّس» الذي وصفه أفلاطون وكان ثمّة تمييز جليّ بينه وبين الجنون «العاديّ»… يتبع

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى