أسامة محسن… نوّاس جديد يرفع من أسهم الخمريات!

طلال مرتضى

كم من المرّات كرّرت نشرها من دون كلل أو ملل، ولعلّي سأعيد كتابتها اليوم كالمعتاد على صدر المقال لتكون ديدنه الأول والأخير. لم أقف يوماً مثل مسمار على ناصية القراءة بين الشاعر ومتلقّيه، بل كنت فاعلاً في تبيان كلّ ما يخالج الاثنين معاً من ارتباكات ودهشة. هل تذكرون حينما همست بكم عالياً أنّ «الشعراء قومٌ أباة أخذتهم عزّة المعنى صوب جهة الجنون»؟ أما قلتها بالعربي الصريح إنّهم رهط عراة لا صوف لديهم ولا هم ينسجون؟!

في العودة إلى مفاتن النقد الأولى، ثمة نقاد كثر وشوا علانية، أنّ زمن «الخمريات» ولّى وإلى غير رجعة مع من افتعله في السالف أبي النوّاس. كانت المقولات خاطئة حينذاك، حين تمّ سدّ الباب عمداً أمام هذا الباب. ولست أقول هذا جزافاً، فها هو «نوّاس» آخر تلده خطيئة الكتابة من لدنها، جاء من عصف الوجع ليرسم صورته البيانية بحلّة جديدة لم نتلمس مذاق نشوتها منذ أزل.

أسامة محسن، ومن خلال منجزه الجديد «أعاقر النشوة… أغازل الدالية»، والذي صدر مؤخراً عن «دار النهضة العربية» في بيروت، يذهب، وعلى غير عادته، إلى مواطئ شعرية لم يطأها يراعه النديّ من قبل. وأقول ذلك بعد معالقتي دواوينه السالفة، لعلّي لا أعرف الرجل ولكنني أستطيع رصد أنفاسه تماماً والمرصوفة على تخوم الورق.

من غير المعتاد أن يتلمس قارئ محسن، كيف ذهب هذه المرّة نحو مسرحة القصيدة وتسريدها. فمن المعروف أنّ مَلَكة السرد تثقل النصّ الشعري وتجعل من صوَره البيانية مشروحة إلى حدّ ما، وهو ما يأخذها نحو موطن تالٍ من مواطن الكتابة. لكنّني أقول هذا باعتقادي أنا فقط ولست أعمّم الرأي على أحد، لم أشعر بالملل من هذا السرد الذي وظّفه بطريقة متخفّفة من ممكنات السرد المثقلة بالتفاصيل، ليأتي هنا كرفيف فراشة عمداً تتجه صوت جهة الضوء لتدلي بأن الحكاية دلالاتها سامية إلا من الشهوة. رسم الشاعر، ومنذ ديوانه الأوّل، خريطة بيانية لخطه الشعري، وهذا ما أدهشني، كما قدرة تحمّله وصبره على قصيدته الأنثى. بالفعل كان الصبر مفتاحاً لفرجه، فالدوالي التي زرعها أصبحت عناقيدها دانية ومعتقة، وأشي من دون مواربة بأن أوان قطافها قد آن.

الأنثى القصيدة التي عبرتها في ديوانيه الأوّل والثاني، واليوم في ديوانه الأخير، اكتملت كلّ مقوّمات أنوثتها، صارت قابلة للقضم كتفّاحة آدم الأولى، وهذا ما لم يوفّره محسن حين ضاجعها علانية من دون النظر إلى عواقب الحالة الشعرية بعدما ارتمت بكلّ أناها طواعية:

«فاتّكأَتْ عند فخذي تعزفُ بمِزماري

تُراقصُ أصابعي كأفاعي الرّاعي

تُهَبِّشُ جِلدَ الغروب بالدُّروب

لم تبقَ زهرةٌ إلا وتبرْعَمتْ

وبستانُها الغائرُ بين السُّفوح

احتكَّ بكاحل قدَمي

فانبثقَتْ منه جوريّةٌ خجولةٌ

عسلاً ذابَ صوتُها على قلَمي

أحبّتني الغاوِيَة

شدّتْني من ذقني

وهَمَستْ:

حين لمستْ شفتاي أنفاسَ شفتَيْها

جدارُ رحمي ورقتُك البيضاء

فاحفرْ عليه يا شاعري بحبر الرُّجولة».

أعرفه جيداً كيف يبدّد بيانية المقولة لتصير له معترف عليها بصكّ الكلام، وفي هذا المطرح بالذات أستطيع القول إنه لعب في رأسي أيضاً كما يقال، بأن الخمرة تلعب في الرؤوس ليسقط تلك المقولة تماماً، فهو الغارق حدّ الغيبوبة في لجة كؤوس عزلته ليقول:

«مَنْ لي غيرُ اللهِ في هذه الحانةِ لأُناجي». لم تستطع تلك الملعونة ـ الخمرة ـ أن تثنيه من طلب المدد من ربه على رغم أنه تمادى بعنجهية باستبدال لام «الحالة» بنون صريحة ليكسر ربتم المقولة: في هذه الحالة، وهذا ما يثري سكرته سمواً فريداً.

في منجزه الجديد، ذهب الشاعر نحو المكاشفة، فهو يعي أنّ المواربة لن تجدي نفعاً، فالاعتداد في هذه الظرف قد لا يخدم معناه الشعري. هو يدرك بفطريته الشعرية أن العالم متغيّر تماماً وهذا ما يجعله في لحظة ما يدور حول أناه التي كان يطير بها متباهاً ذات ديوان:

«جواز سفري موشى بنسر وأرزة»، ويعني هنا بما يملكه من امتلاء بسوريته ولبنانيته المتخمة بالعشق حدّ الدوخان. الآن هو أمام ذاته يقول لقصيدته المشتهاة:

«قد لا أدعوكِ لشرْب القهوةِ بعد الحفلة

ولا حتّى أخابرُكِ على الهاتفِ غداً

أكثرَ من دقيقتين

أنا لاجئٌ في هذهِ المدينة

أبحثُ عن عملٍ منذ سنتين

أرقصُ وحدي

كلّما خرجتُ مِنْ فرصةِ عملٍ خائبة

أرقصُ وحدي

كلّما بلَّلَ المطرُ خيمتي

فلا سقفَ يحميني من القهرِ

إلا الرقصَ في لغتي».

نعم، أنه الرقص المكين في اللغة، والعزف على تحويل وتحوير الوجع وتقديمه لقارئ نهم على طبق من حبر، حريّ بي أن أتوقف هنا كي لا أفسد عليكم ودّ القراءة، في القول بيان وللمقولة بنيان:

«لأنّني فقيرٌ

تعطّلتِ الغسّالةُ

واحترقَتِ اللّمبةُ

وفي ذاتِ الوقتِ

حينَ هممْتُ للخروج من الغرفة

عَلِقَ بنطالي بسلك حديد نافر

فانشقَّ قلبي حسرة عليه

اليومَ صرتُ غنيّاً

سرقتُ من غرفة جاري مسدّساً

وجرّبتُه على رأسي».

كاتب سوريّ/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى