مروان عبد العال: ذاكرتنا هي مفتاح عودتنا

ضحى عبد الرؤوف المل

تنطلق رواية الفلسطيني مروان عبد العال «الزعتر الأخير» ـ الصادرة عن «دار الفارابي» 2017 ـ من نقطة الموت. لأن الموت الحقيقي هو موت الذاكرة. والرواية ليست مجرد سيرة شخصية تبوح بأسرارها، وإنّما هي توريط للقارئ للولوج إلى أعماق شخصيتها المحورية، ذلك البطل مركز الرواية، والشخصيات الأخرى تدور في فلكه بما فيها القارئ والكاتب نفسه. «الزعتر الأخير» هي الرواية الثامنة في مسيرة صاحبها الذي كان معه هذا الحوار.

في روايتك الأخيرة تصوير للذاكرة الواقعية لفلسطين.. هل تخاف محو الذاكرة؟

ـ أخشى النسيان وألا نكترث لما يدور حولنا، ويأخذنا صخب المنفى وضجيج الغربة إلى انعدام القدرة على الإلمام بأدق التفاصيل. ذاكرتنا معرّضة للاغتيال والمحو والسحق، والهزيمة الحقيقة تُقاس بمدى خسارة الإنسان ذاكرته. ذاكرة «الزعتر الأخير» تشبه فانتازيا واقعية، ومع ذلك محورها الذاكرة حين ترصد الأحداث التي تختمر في الإنسان الشريد، لتقول كم يكون الإنسان ضائعاً وتائهاً وعارياً عندما يكون بدون ذاكرة. هي عملية سرد للذاكرة الجارية التي تتجدّد وتمتد وتعجّ بنبض الحياة، تماماً تشبه المياه الجارية، فالذاكرة النقية مهما ابتعدت عن ينابيعها، أو ضاعت في وديان الأرض لا بدّ أن تجد منفذاً لتحاول العودة من حيث أتت. ذاكرتنا هي مفتاح عودتنا.

ماذا عن رمزية نبتة الزعتر المتمكنة في التربة الفلسطينية؟

ـ الزعتر الذي ينبت في جبال الجليل، النبتة الطاهرة برائحتها الحادّة ونكهتها اللاسعة والتي لا تنبت إلا فوق القمم العالية، وبين شقوق الصخر، لكن حركة السرد في بنية روائية حلزونية، تبدأ من زعتر ينبت على سفوح وادي الحنداج في فلسطين، الوصول إليه يحتاج إلى مشقة، ليس سهل المنال، مع طفل يرعى ويصادق ويراقص رأس ماعز، ظل في ذاكرته الطفولية ولم يقتلع منها، كان الماعز يعشق نبتة الزعتر ويصعد القمم باحثاً عنها. أطلق عليه اسم الزعتر، لكن مسيرة اللجوء انتهت به إلى تل الزعتر. هنا أردت القول إن غاية الذاكرة الروائية هي في العمل على حل لغز الذاكرة، ليس بسرد تسجيلي معاش وكلاسيكي، بل بالاستناد إلى وقائع خلّدتها الذاكرة الجماعية، وكذلك تحويل الذاكرة الجامدة إلى متحرّكة، والذاكرة السلبية إلى ذاكرة إيجابية، من ردة فعل واستجداء إلى ذاكرة تمتلك نزعة المقاومة.

وجع وشتات وحكايا فلسطينية. هل تضع كل هذا في نكهة روائية للإبقاء على الأرض؟

ـ لحفظ الذات ومن خلال البقاء في المعنى، لأن خسارة المعنى هي المقدّمة الأولى لخسارة الحرب. الشخصية قالت هكذا، فالبطل لم تجعل منه النكبة يحيا على الرصيف، ولم يفقد معناه كإنسان ولا ذاته ووجوده وذاكرته وأحلامه وانتماءه، لم يخسر قيم الحياة بأن يناضل ويعيش لأجل قضية. «الزعتر الأخير» حكاية للمعنى العميق للإنسان الفلسطيني، هي القدرة على إنتاج الغاية النبيلة والفكرة المحفزة والقوة الروحية، والاعتماد على الذات الوطنية لأنها تصبّ في ميزان المعنويات، وهنا نحفظ معنى فلسطين لأنه الحفاظ على المعنى وإعادة إنتاج هذه المعادلة الجديدة بمفردات تكتب من خارج الشروط الشكليّة والتقليدية التي تكتب فيها الرواية.

هل اعتمدت على التصوير الروائي لتوثيق حالة فلسطينية؟

ـ أرشيفنا المعتمَد هو الذاكرة التي نحتاجها وأحياناً نلبسها الأسطورة ونخترعها ونصدّقها لتغذية الأمل فينا. منذ أن انطلقت ملحمة السرد من «سفر أيوب» روايتي الأولى إلى زهرة الطين وجفرا وحاسة هاربة وشيرديل الثاني وحتى 60 مليون زهرة، وصولاً إلى الزعتر الأخير هي إضاءات من زاوية مختلفة لشخصية الإنسان غير المرغوب فيه، لسؤال الهوية وللتحوّلات التي مرّ فيها عبر سنوات النكبة، هي اختراق لذهنية المقتلع الذي استبدت به الأمكنة، واكتشاف مركبات الشخصية وتعقيداتها وثنائياتها وتناقضاتها وهيجان الذاكرة فيها والرغبات المخفيّة والمكبوتة فيها، وسرّ الخوف من الآتي ودائماً تتوجس من المستقبل، تعتبر ما هو مقبل يظلّ أعنف مما مضى. أحياناً تبني صورة في خيالك، تكون أنت أول من يدخلها حتى لو أنت صانعها، ترجع إليها كلّما قررت أن تنطوي على نفسك. كل رواية بالنسبة لي هي حالة تأملية تقويمية في سيرة جماعية متسلسلة، فيها محاكاة أقرب إلى الالتزام، جمالية اللقاء في فضاء الحكاية، إيحاء تتجاوز فيه الفقدان، كأننا نبني جسراً روحياً للاجتياز الممنوع بين الأصل والفرع. لذلك تجعل من القوة الحسيّة أداة تؤمن بضرورة تحطيم الجدار الفاصل بيننا وبين مسقط أحلامنا، ومن القوة التصويرية نوع من العشق الذي لا يكتمل بالحكاية، بل كصورة طبق الأصل، ما يستدعي الحاجة إلى أن نكون صادقين تماماً مع أنفسنا، أن نستحق ذاتنا كي نستحق حريتنا، حالة الصمت وحدها تعطيني إحساساً رهيباً بالذنب. عندما أكتب أعتبر أن خيالي يقاتل بدون كلل، أجدني آخذ استراحة ضرورية استراحة محارب لاستئناف القتال مرة ثانية. الغاية هي قهر حصانة هذا الباب المنيع.

البكاء بصمت ومعركة لن تكون الأخيرة، روائياً ماذا بعد؟

ـ أن نقتفي أثر البطل الإيجابي، وألا نخسر البطولة الحقيقية، الزعتر منذ أن ترك الوطن ورافقه بالهروب تحت رصاص الحرب. غاب معه في المنفى لكن ظلّ معه كذكرى، مهما كان الشتات قاسياً، لكن الوطن المعنوي لم ينتزع منّا. لذلك لا يقوى أحد على التعبير عمّا أصاب الشخصية الفلسطينية من انتكاسات وانكسارات وخيبات، ومع ذلك جعلتها تفيض بالتحدي وبالتضحية وتنتصر على الثنائيات المتناقضة في الذات الواحدة، حين تمنحها الحياة ألوانها، من الزعتر الأول على زعتر وديانه إلى جرح الزعتر الأخير. ماذا بعد؟ الزعتر الجليلي مثل شجرة الحياة، التي زرعتها الكنعانية الأولى لتعاند الاقتلاع والاحتلال وتقاوم ديكتاتورية الأمكنة، وديكتاتورية الوظيفة وديكتاتورية الحبّ والسجن والحرب.

ماذا عن الروائي نفسه؟

ـ هو الفلسطيني الذي يدهشه الجمال في هذا العالم، المخيم ذاكرته الأولى، والوطن خياله المسافر. الطفل الذي يكتب على الهواء، يوم لم يكن يمتلك مكاناً يكتب عليه. بعدها لم أكن أصدق يومها أن ما كتبته كبر معي وحلّق في الريح وصار عابراً للحدود. وابن المخيم الذي لعب صغيراً لعبة «وقعت الحرب» وعندما كبر أدرك أن لعبة الحرب حقيقية. يسير بمحاذاتها أو قبلها أو بعدها أو عشية حرب أو فيها. فأنا ابن الحرب الذي لا يهدأ يحلم ويكتب ويرسم ويناضل في سبيل الوطن وليس أي وطن، الوطن بلا نقصان، فلسطين المعنى والحقيقة والحقّ، وطني الكامل. أكتب ليتجدّد الأمل ويشرق الفرح الذي لا يعيش إلا تحت الشمس.

كاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى