جديد السيد بوفايد… قصيدة تضيء خفي الأنوثة والحياة

أحمد الشيخاوي

عبر أحدث إصداراته الورقية عن مطبعة فنّ الطباعة ـ تونس، حلّ خامساً بعيد مجاميع نجرّدها تباعاً على هذا النحو: «ثمة شيء غامض» 2005، «احتشاد الأسئلة» 2007، تعقبه «رياح الشتات» 2009، فالرابع «يهطل على ضفائرها البهاء» 2015، ها هو السيد بوفايد، يطالعنا بباقة قصائد تضمّنها ديوان «كما الذئب في الخمسين»، تعكس إلحاح وضغط الرّشاقة الوجدانية، بشتّى تفاصيلها، تدور في أفلاكها الأنا معربدة في حذر، مقتطعة من حظوظ الانتشاء والاحتفالية بالمنسي أو المحجوب الذي لم تطله بعد، جوارح اللذة الأولى، لدى منعطفات تقاطع الحياتي الجاهز والعاطفي المراهَن عليه في إنتاج الألوان المستجلبة لجملة من معاني الإضافة والتخصيب المفتقر إليهما الوجود والكائن.

كضرب من تجليّات النرجسية المهيمنة، إذ تبحث في المستحيل، صاعقة بمكر المكاشفة، ومفتّشة عن المعنى في جبال من الركام.

سبيله إلى ذلك، عمق الرؤى في انزياحها الارتجاجي، مبطّناً بعملية تثوير الموقف الكوني الأقدر على إتاحة انفلات ذاتي مختزل للعبة الكلامية وحصرها في طقوسيات الاحتفاء بالمكان، رموزاً وذاكرة مثقوبة مرشوشة بتعاليم الواضح الموغل في مرجانية معجم المزج السحري بين العناصر الحياتية ومفردات العشق القاهر.

بوصف الممارسة تصاعدية تيّار واعٍ تخطّى مجرّد الدغدغة الرومانسية، صوب أفق تركيبية لتواشج الذات مع سائر ما يمتدّ وينطلق منها، ضمن مسارب لولبية، تغذي التصالح والتكاملية المنشودة، وتقترح الخريطة الإنسانية الأحوى والأشمل.

ممارسة تنسحب في نورانية فصولها، على مسْرَحَة خطاب ترتيب راهن النقاهة المذيلة لزمن ومشاهد العبثية ومجانية الموت.

من ثمّ كمّ هذه الرواسب، كوقود مؤجج لروح الهشّ، مسهباً في أدوار تصوير التجربة مضادّة ومقعّدة لأعتى قوانين ثقافة اشتهاء الموت، خارج حدود الكلام ولعنة الأنساق.

انجراف تعبيري تلبسه الخطيئة النرجسية بالكامل، يحاول أن يقترف معادلات الحياة البديلة، حلمية وتوهّما، قدر ما للأنوثة من ظلال فوق الاعتيادي، تصلح سرابيل يزدان بها الوطن في طور تعافيه وفي غمرة فرحة طفولية حاملة ملامح عيد منتظر تتربّص به الذات المعذّبة ممثلة جيل ما بعد الثورة المرتجلة الطاعنة بجحيميتها وكابوسية عبورها.

ينقش شاعرنا مطلع ديوانه هذا، ببروز وامض لبسّام حجاز، إذ يبصم قائلاً:

«أغبطك نعمة الحجر

نعمة الصمت

أيّها المكان

سوف تحيا من بعدي».

وعلى أي، تجترح شعرية هذا المنجز، توازياً جسدياً، نفسياً، معرّياً وكاشفاً جوانب وجهات المشترك بين الوطن والحبيبة تحت لواء العشق بدءاً وانتهاء. هاتان المضغتان من ذات تتوسّل خلاصها عبر صياغة مقبولة لاشتراطات خلاصهما، وهي متلازمة مستفزّة لدول الإقحام النرجسي في مثلثات فلكلورية الاحتماء من صدمات اللحظي، بالاتكاء على مناخات هذا اللحظي الوارف بذروة الحلمية، والاعتكاف على منابع الواقي المعادل لفعل كتابي تشحذه إرهاصات الحيوات الطيفية في إسفاف محورتها وإجرائها على نظم النورانية والاستطيقية والتخييل المغرق في أبعاد الإيجابية والنأي عن إيقاع الانهزامية ونبض المطفأ.

تأييداً للمفذلك له آنفاً، نسوق الاقتباسات التالية:

«لؤلؤة…

تلتحف برداء الحياء

والحنّاء

عطرها تراب الأرض».

«وحدها تمدّ يدها

تتحسّس ثمار جسدها

النّاضجة

وتهذي في صمتها

له مكان».

«أتراني من شغفي بها؟

أصوّر حضورها

وردة في كتابي

وضحكة مثبتة في جداري

وفي المرآة».

«فأطير

وأنثر كامل أنوثتي

بين يديك

نضجت فاكهتي

وتهيّأ دمي

لفتنة أخرى».

«حانتنا التجارب والحيل

من هي؟

أكانت فتنة؟

أم لعنة»؟

«حين كانت صغيرة

تمنّت أن تكبر

وأن تكون لها أشياؤها

الثمينة

وحين كبرت

أضاعت أشياؤها

ونسيت أن تعود

صغيرة».

«ما زلت أطير خفيفاً

مع الرّيح…

وأطوي البلاد مطمئنّاً

إلى غدي».

«سأختار موتاً هادئاً

يليق بي

مثلاً

أقبّل زوجتي وأبنائي

وأدخل نوماً عميقاً

فيحملني

إلى ضفّة

أخرى».

وحدها الشجرة القديمة

تراقب الأحداث

بعيون مفتوحة

وآذان صاغية

تحصي أخطاءنا

وما ارتكب العشّاق

من حماقات

تحت ظلالها».

إنّها نصوص شفّافة جدّاً وصقيلة، تراوح من جهة أولى، بين سلاسة الطّرح مشبوباً بلغة قريبة مغازلة لمرايا القلب، وتأبّط الصور النادرة، من جهة ثانية، قصد التضليل وتغوير بئر المعنى المثقل بفعل الاستلهامات مثلما تجود بها تجليات التراب والصّاحبة.

دونما التغاضي بالطبع، عن العتبة الرئيسية باعتبارها أبرز انزياح ينمّ عن أسرار هذه الكتلة التعبيرية التي وإن سُجّلت ضدّها اللوثة الشعرية أحياناً، والتلعثم المعيق لانسيابية التصوير على نحو خاص، بما يخدم الغرض العام، وراء هذا الاستدعاء القوي واللافت لمفردة «الذئب» في صلب كهذه عنونة واسمة للمنجز.

هكذا، وُجب تأكيد أكثر من قيمة محمولة على متون هذا العمل المقبول، بحيث يستأسد الصوت الفاضح لراهن التردّي والاستذءاب، واشية به، منظومة مفاهيمية من عيار الدموية والكيد الأخوي إلخ…

صاغ أسلوبيتها معمار أوجه الشبه معرَّفاً، مع زخم التأويلات الناجمة عمّا قد يسكت عنه هامش الموروث الديني، إن تقابلاً أو معارضة، يفيد تبرئة الذّمّة ورفع الكلفة عن الذات والعالم.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى