«الومضة سياقٌ شعريٌّ مستقلّ»

لارا ملّاك

انطلق ملتقى الأدب الوجيز حركةً أدبيّةً فكريّةً، تنظّر للأدب الوجيز الّذي يقوم على ركنين: شعر الومضة والقصّة القصيرة جدًّا. وقد تنبّه أعضاء الملتقى إلى ضرورة التّنظير النقديّ في هذا المجال الأدبيّ الجديد كي تتّضح الرّؤيا حوله، وكي تُحدَّد عناصر النّصّ الإبداعيّ العربيّ الجديد، وكي تبرز للجمهور وللخاصّة أيضًا ملامحه، فيصير نوعًا أدبيًّا مستقلًّا له كيانه. وفي سبيل ذلك، عقدنا اللّقاءات الحواريّة والأمسيات، فدار النّقاش منذ سنةٍ ونصف تقريبًا، وهو مستمرٌّ حتّى اليوم، بين أدباء ونقّادٍ عديدين لتبادل الآراء ووجهات النّظر بما يخدم هذا الجنس الأدبيّ الجديد.

ولعلّ أكثر الإشكاليّات الّتي لاحظتُ حضورها القويّ بين النّاس حول نصّ شعر الومضة، إشكاليّة النّظر إلى أيّ نصٍّ وجيزٍ على أنّه ومضة، وتصنيفه على هذا الأساس وإشكاليّة تصنيف أيّ بيتٍ شعريٍّ ضمن قصيدةٍ مطوّلةٍ، ومضةً شعريّة.

في الإشكاليّة الأولى، لا بدّ من القول إنّ الإيجاز ليس الشّرط الوحيد لكي يكون النّصّ ومضة، أو كي تكتمل فيه الشّعريّة. فالومضة، إلى جانب قصرها من حيث الشّكل، لا بدّ أن تأتي مكثّفةً ومدهشةً ومتشابكةً دلاليًّا، وهي عناصر سبق طرحها في مقالاتٍ عديدةٍ وضعها الملتقى.

أمّا الإشكاليّة الثّانية، فهي موضوع هذه المقالة، حيث وجدتُ حاجةً ملحّةً لطرحها كي تتّضح الرّؤى ويتبدّى الغموض القائم.

في الواقع، لا بدّ أن أقول في هذا الإطار إنّ الومضة نصٌّ قائمٌ في ذاته، وليس جزءًا من نصٍّ مطوّلٍ آخر. فالوميض من صفاته الأساسيّة حتّى تُطلَق عليه هذه التّسمية، أن ينجلي ثمّ يختفي في مدّةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ جدًّا، أي يكون زمن وجوده قصيرًا، والزّمن المقصود في شعر الومضة هو زمن الكلام المنطوق، وهذا الزّمن الشّعريّ في شعر المطوّلات الموزونة أو الحرّة طويلٌ بطبيعة الحال. من هنا لا يمكن تجزئة المطوّلات إلى ومضاتٍ لأنّ زمن النّصّ يختلف ويحدّده الشّاعر بشكلٍ واعٍ أو لا واعٍ، حيث تكتمل الشّعريّة في زمنٍ يحدّده هو.

ولا أكتفي في هذا السّياق بهذا الدّليل، إنّما أنتقل إلى نظريّاتٍ درست النّصّ الأدبيّ، وتوضح فلسفة نشأتها أنّ شعريّة النّصّ كلٌّ متماسكٌ لا يُجزّأ. وكي أدلّل على ما أقول، سأختار نصّين شعريّين، الأوّل نصٌّ مطوّلٌ نسبيًّا، أي لا يتّسم بالإيجاز، وهو قصيدةٌ بعنوان «صحراء» لأدونيس من كتابه «الحصار»، والثّاني هو نصّ ومضةٍ من الكتاب نفسه.

وسأكتفي من النّصّ الأوّل، بسبب عدم إمكانيّة طرحه بأكمله في هذه المقالة لطوله، بإيراد الجزء الأوّل منه:

«في زمانٍ يصارحني: لستَ منّي

وأصارحه: لستُ منك، وأجهد أن أفهمه…

وأنا الآن طيفٌ

يتشرّد في مهمّه

ويخيّم في جمجمه.

الفضاء مدىً يتضاءل، نافذةٌ تتناءى،

والنّهار خيوطٌ

تتقطّع في رئتيّ وترفو المساء…»

بينما النّصّ الثّاني هو بعنوان «حالة غيمة»:

«غيمةٌ من كلامٍ

تتبخّر من جثث الأنبياء

وتغطّي الفضاء»

إنّ النّظريّة الأولى الّتي أنطلق منها لإثبات ما ذهبتُ إليه، نظريّة السّياق. والسّياق، في هذه النّظريّة هو السّياق اللّغويّ الّذي ترد فيه الكلمة. أي أنّه من غير الممكن تجزئة الكلام، أو فصل بعضه عن بعض. فالمفردة تتّخذ معناها من الكلمات الّتي تجاورها، وهو رأيٌ قال فيه الجرجاني الّذي أكّد على استحالة دراسة بيتٍ شعريٍّ واحدٍ في القصيدة بشكلٍ مستقلٍّ عن باقي الأبيات. وقد برزت هذه النّظريّة في النّقد الحديث أيضًا، حيث أشار أصحاب هذه النّظريّة إلى السّياق العاطفيّ، وسياق الموقف، والسّياق الثقافيّ في دراسة النّصّ. والسّياقات كلّها لا يمكن أن تتّضح أو أن تأخذ من النّصّ فكرةً واحدةً منه بشكلٍ منفصل، لتدرسها أو ليفهمها القارئ. فمثلًا «الفكرة الثّانية من النّصّ الأوّل وهي «وأنا الآن طيفٌ / يتشرّد في مهمّه / ويخيّم في جمجمه»، تقع في سياقٍ لاحقٍ للفكرة الأولى، وبذلك ترتبط الفكرتان، من حيث الشّكل، ومن حيث المضمون، أي أنّ مفهوم التّشرّد مثلًا لو أتى في سياقٍ لغويٍّ آخر لظهرت له في النّصّ مفاهيم مغايرة، فبناءً على الفكرة الأولى الّتي يُظهر فيها الشّاعر انعدام الانتماء إلى الزّمن الّذي يعيش فيه، تنكشف لنا مفاهيم التّشرّد الواردة في الفكرة الثّانية. وبذلك لا يمكن الكلام على ومضةٍ أولى منفصلةٍ عن ومضةٍ ثانية، لأنّ هذا لا يمكن أن يصحّ من حيث الدّلالة الّتي بُني النّصّ على أساسها. والنّصّ الثّاني، أي نصّ الومضة، لا يمكن أيضًا إلّا الأخذ بدلالته كلًّا متكاملًا. فالفضاء مثلًا يتّخذ معناه من السّياق الّذي يرد فيه، حيث لا يكون الفضاء هنا فضاءً من نجوم وكواكب، أو فضاءً من حبّ أو فضاء سفر، إنّما هو فضاء الفكر الدّينيّ المسيطر، ولا يتّضح لي ذلك إلّا من سياق الوحدات اللّغويّة الّتي وقعت فيها هذه الكلمة، غير أنّ السّياق في الومضة هذه يشير إلى فكرةٍ شعريّةٍ واحدة خاطفةٍ لها أبعادها الشّعريّة والدّلاليّة المفتوحة، بينما تتلاحق الأفكار في النّصّ المطوّل من دون انفصالٍ بينها.

أمّا النّظريّة الثّانية الّتي اخترتُها، فهي النّظريّة السّلوكيّة في دراسة النّصوص. والسّلوكيّة في أساس فلسفتها، هي نظريّةٌ تشير إلى أنّ أيّ فعلٍ ينتج عن الإنسان هو ردّ فعلٍ لفعل، أي استجابةٌ لمثير، لتصير الاستجابة بعدها مثيرًا ينتج استجابةً أخرى. وقد أفاد دارسو الأدب منها وطبّقوها على النّصوص، ومنهم بلومفيلد، وبذلك تكون الفكرة في النّصّ استجابةً لفكرةٍ سابقةٍ لها، علمًا بأنّ النّصّ في ذاته هو استجابةٌ لمثيرٍ خارجيٍّ تنتج عنه كتابة النّصّ. من خلال هذه النّظريّة إذًا، لا يمكن تجزئة النّصّ، واختيار فكرةٍ مهما كانت لامعةً فيه، كما لا يمكن القول إنّها ومضةٌ قائمةٌ في ذاتها، أو نصٌّ قائمٌ في ذاته. فالنّصّ الأوّل لأدونيس مثلًا هو كلٌّ متكاملٌ من مثيراتٍ واستجاباتٍ، وينطبق ذلك على النّصّ الثّاني. ففي النّصّ الأوّل، المصارحة بين الشّاعر وبين الزّمن بعدم انتماء أحدهما إلى الآخر، هو مثيرٌ أدّى إلى استجابةٍ هي إحساس الشّاعر بأنّه طيفٌ مشرّدٌ مفكّرٌ، لتصير هذه الاستجابة بدورها مثيرًا يؤدّي إلى استجابةٍ جديدةٍ هي تحوّل الفضاء أو تحوّل النّظرة إليه، ليتضاءل أي لتنحسر فيه أفق الرّؤى الفكريّة الإنسانيّة، ولتتناءى النّافذة أي تبتعد، وهو ابتعاد أمل الانتقال من الضّيق إلى الانفراج، وسياق العطف هنا يشير إلى استجاباتٍ متزامنةٍ للمثير هذا حيث يتقطّع النّهار ضعيفًا في أنفاس الشّاعر ويعانق المساء، أي كأنّ الغروب حدثٌ يحصل في أنا الشّاعر وعمقها، لتتّضح صورة النّهار، على أنّه الزّمن العاطفيّ الشّعوريّ الخاصّ بالشّاعر وحده دون النّاس. وهكذا تستمرّ المثيرات والاستجابات ضمن النّصّ حتّى نهايته، ولا ينتهي النّصّ إلّا بانتهائها. أمّا النّصّ الثّاني، فهو يشير إلى سيطرة الدّين بشكلٍ تصاعديٍّ من الأرض نحو السّماء، وليس العكس، وكأنّ الدّين فعلٌ أرضيٌّ وليس تنزيلًا سماويًّا. فمات الأنبياء، ليكون ذلك مثيرًا أدّى إلى فعلٍ ثانٍ هو تبخّر كلامهم وفكرهم صعودًا نحو السّماء، ليصير ذلك مثيرًا أدّى إلى تشكّل غيمةٍ تغطّي الفضاء، ممّا يوحي بسيطرةٍ عليا كاملةٍ مطبقةٍ لهذا الفكر. هكذا إذًا، تنتهي الأفعال وردّات الأفعال حين ينتهي الكلام الشّعريّ، وليس قبل انتهائه، وهذا الانتهاء مرهونٌ بنصّ الشّاعر وحده، وليس بعشوائيّة اختيار العبارات من النّصوص من قبل النّاقد، عند تحليلها أو عند تصنيفها.

أمّا النّظريّة الثّالثة الّتي تتيح لي أيضًا، الكلام على وحدة النّصّ الأدبي، فهي الألسنيّة النّسقيّة الّتي تنظر إلى النّصّ مهما كان حجمه على أنّه ذو مستويين، مستوى التّعبير ومستوى المحتوى. مستوى التّعبير هو ما نلفظه، ومستوى المحتوى، هو ما يؤدّيه اللّفظ من دلالةٍ، أي أنّها نظريّة الشّكل والمضمون الّتي قال بها العرب. هذه النّظريّة تأخذ النّصّ كما جاء به مؤلّفه متسلسلًا متكاملًا كما هو. أي تتّفق هذه النّظريّة مع النّظريّتين الّلتين ذكرتُهما سابقًا، من حيث الأخذ بالنّصّ كما هو.

نصّ الومضة إذًا نصٌّ كاملٌ، ويأتي اكتماله جرّاء تشعّب الأبعاد الّتي يوحي بها. والكلام على ومضاتٍ مستقلّةٍ ضمن النّصّ المطوّل يستحيل شعريًّا ونقديًّا، لأنّ الكلام الشّعريّ زمنٌ نفسيٌّ عاطفيٌّ في فكر الشّاعر بالدّرجة الأولى، فإمّا يأتي بشكلٍ عفويٍّ زمنًا موجزًا وإمّا يأتي مطوّلًا، وفي الحالتين ليس للنّاقد الأحقيّة في التّحكّم به مدًّا أو تقليصًا أو اجتزاءً.

ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى