أخيرة

ميم في مراياه: الشّاعر في عين الشّاعر

} د. كميل مُقبِل حمادة

بنرجسيّة محبّبة يُعرّفنا محمّد علي شمس الدّين على نفسه من خلال «ميم» في قصيدته «ميم يحرث في الآبار»، حيث يتّخذ «ميم» جملةً من الدّلالات:

هو الحرف الأول من اسمه،

هو إشارة إلى كلّ غامض مجهول في العلوم وفي الأشخاص.

وهو حرف وحيد منفرد مقطّع، وحدته دلالة على وحدة الشّاعر وفرادته وغربته.

 وربّما تكون هذه المرّة الوحيدة الّتي يتّخذ شاعر عربيّ نفسه قناعاً، وهذه ليست مجرد نرجسيّة من الشّاعر، بل تعبير عن همّه الثقافيّ حيث يعدّ نفسه مكلّفاً بحمل راية الشّعر لهداية أمّته.

يحيلنا العنوان «ميم يحرث في الآبار» إلى جملة دلالات عميقة؛ إذ يعني تصدّر «ميم» العنوانَ صدارته في الحياة والفاعليّة، واللّافت أنّ «ميم» يحرث في الآبار، بما تحمله الآبار من دلالة الماء من جهة، ودلالة العمق والخفاء من جهة أخرى؛ فميم يحرث في الأعماق، ولا يحرث ظاهر الأرض أو أرضاً ظاهرةً. وهكذا يمتاح الشّاعر الماء من النّاس الّذين ينتمي إليهم فيخرج ما فيهم من حسّ الثّورة والحياة والخصب.

ويُعرّف لنا شمس الدّين «ميم» قائلاً:

«ميم

فلّاح الغيب

وساقية الأسرار

يحفر أحياناً في القلب

ويحرث أحياناً في الآبار

أثلام الماء على سكّته

تنشقُّ

فيخرج منها زبد مبهم

يأخذ «ميمُ» الماء بكفّيه

كما يأخذ قمح الموسم

ويُحدِّق فيه

فيُبصر صورته

تتماوج بين يديه

هذا الماء جميلٌ وعميقٌ

وأنا فيه

كنرجسةٍ في النّار

ميم الآن ينام على شفة الرؤيا

لا يهبط نحو البئر

ولا يصعد نحو الأمطار»

فـ «ميم» فلّاح الغيب، يعرف خباياه: مواعيد الحراثة، وآوان البذار، ومواقيت السّقاية، ومواسم الحصاد، وهي إشارة إلى رؤية محمّد عليّ شمس الدّين إلى الدّين والغيب بأنّهما خصبان قابلان للزّراعة والإنتاج شريطة أن يتوفّر الفلّاح المجيد الّذي يستطيع تأويل النصّ الدينيّ والتّنزيل الغيبيّ

واللّافت أنَّ شمس الدّين يستخدم للقلوب الفعل (يحفر)، بما يشير إليه الحفر من البحث عن المناجم في الأرض الصّلبة، ما يشير إلى أنّ مهمّة الشّاعر في الوصول إلى القلوب من أجل حرث التّاريخ والجغرافيا والأفكار، لزراعة ما يضع الأمّة على طريق نهوضها الحضاري.

وتنشقّ أثلام الماء على سكّته؛ لكأنّ الشّاعر «ميم» هو موسى الجديد الّذي «تتفجّر له اثنتا عشرة عينا»..

والشّاعر «نرسيس» جديد، ينظر إلى الماء فيبصر صورته، وعيناه بين أصابعه، بما ترمز إليه الأصابع من الكتابة والشّعر، والعينان بما ترمزان إليه من الرّؤية والاستشراف والتّجاوز، وبذلك يغدو الشّاعر رائياً متنبِّئاً وعرّافاً يعلم الغيب والمستقبل، فالكتابة باب إلى الرّؤية والغيب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى