ثقافة وفنون

التمثّل الفلسفيّ في الومضة الشّعريّة

} سهير شعلان أبو زيد*

تقتضي مَهمّة الفلسفة في سيرورتها المعرفيّة، إعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والعالم، في ضوء ما يستجدّ من أفكار، ومفاهيم، وطرق تعبيريّة منتجة للمعنى.

وإذا ما تقصّينا حركة تلك السّيرورة في مختلف شِعابها، سنعثر على موجّهات كثيرة أهمّها اللّغة، بُعدًا وجوديًّا، ووظيفة فلسفيّة جديدة، تستنفد طاقاتها الجماليّة، وخصائصها الفنّية، في الانفتاح على مختلف الفضاءات الفكريّة والإبداعيّة، الفرديّة والاجتماعيّة، الواقعيّة والمتخيَّلة.

والقول بالعلاقة بين الفلسفة واللّغة، قديم، قِدَم الوعي البشريّ، تحديدًا عند فلاسفة اليونان القدماء. حين أصّلوا مصطلح «اللّوغوس»، للدلالة على العقل واللّغة في آنٍ معًا. مشدّدين على قدرة التّعبير في»ترجمة الأفكار بوساطة الكلمات، شعريّة كانت أم نثريّة».1

وفي العصر الحديث، استأنفت الفلسفة دورها في ترسيخ العلاقة الفكريّة والوجوديّة مع اللّغة، من خلال اتّباع مقاييس نقديّة وإبداعيّة متجدّدة، وآليّات وأدوات أفهوميّة، أسهمت عميقًا في فهم النّصوص، وحلّ معضلاتها اللّغويّة.

والواقع، إنّ «مشروع ريكور، في خمسينيّات القرن العشرين، في إنشاء فلسفة كبرى تُعنى بإيجاد المعنى الحقيقيّ»2، متّن الصّلة بين الفلسفة واللّغة الأدبيّة، على نحوٍ تبلورت فيه «الهيرمينوطيقا التّأويليّة» فلسفةً تؤسّس لوعي جديد، وإنسان جديد، وواقع جديد. فجعلت تركيزها في الكلمات والعلامات والرّموز، في عدّها (حوامل المعاني)، واهتمّت بالتراكيب والجمل وأشكال الخطاب، قوّة تعبييريّة مخاتلة، تومئ ولا تفصح عن المعنى.

في هذا الإطار، تتكشّف العلاقة بين «الومضة الشّعريّة» جنسًا أدبيًّا حديثًا، والفلسفة سيرورة معرفيّة مستدامة، من جهة اشتغالها بمنطق اللّغة وأدواتها وآليّاتها، أيضًا من جهة انشغالها بالمعنى والوجود والوعي. فإلى أيِّ مدًى أسهمت الومضة الشعريّة في إحداث الوعي؟

الومضة ودلالتُها

لا مفرّ بداية من العودة إلى معجم المعاني، للاطّلاع على المعنى الجذريّ لكلمة «ومضة»، لإقامة قناة تأويليّة، تنقل المعنى من ظاهره إلى باطنه. أي من حيث هو معطى قبليّ، إلى ممارسة فكريّة قصديّة تجاه رؤية ما.

ومض ووميض، هو برق من الضوء.

ومض البرق، لمع.

ومض الشيء وميضًا، من وهج الضوء وأنار.

ومض، أشار، غمز.

ومضت المرأة، سرقت الأنظار إليها.

يُتيح لنا هذا التّفسير المعجميّ، أن نتأمّل المعنى الخفيّ، والإيحاء الّذي يومئ به التّخصيص الدّلالي، في وصف «الومضة» بـ»الشّعريّة». فتلفتنا الإشارة، إلى طبيعة الومضة ونوعيّتها، في كونها ظاهرة طبيعيّة، تحتوي على إشعاعات وشحنات كهربائيّة يجسّدها الخطّ المتعرّج، وربطها بالشّعريّة. وهو ما يمنحها خاصّيّة دلاليّة لفكر الشّاعر المشعّ، والعاطفة المتوهّجة السّارية في جسده رجفًا وارتعاشًا.

وفي هذا التّأويل، نلاحظ أنّ التّخصيص قد أفرغ «الومضة» من شحنتها الطّبيعيّة الحسّيّة، وملأها شحنة عاطفيّة، ذهنيّة. فبدت أكثر توهّجًا وأشدّ لمعانًا، لما يحدثه الشّعر  من برق وتفجّر لكلّ حمولاته الفكريّة والجماليّة، الفرديّة والاجتماعيّة، الزمنيّة والوجوديّة، في ومض لحظويّ خاطف، يمرّ عبر مخيّلة الشاعر، ليزخّ إشعاعاته الفكريّة في عالم اللّغة.

أمّا الرّبط بين الومض والفكر،  فتخبرنا الكتب الّتي انشغلت بتاريخ الشّعوب والأديان القديمة، أنّ البرق كان الوثبة الأولى للفكر، وأنّ وميضه أبرز الظّواهر الطّبيعيّة، الّتي دفعت الوعي البشريّ إلى التّفتح. وعليه، فإنّ العلاقة العموديّة القائمة منذ التّاريخ، بين الإنسان والسّماء (الله)، كان مبعثها الأوّل وميض البرق، في ما أثاره من رهبة، ودهشة، وخطورة، وجمال، أو حتى في حفزه العقل من تأمّل وتفكير عميق وسؤال، عن حقيقة العالم، والحياة، والبدايات»3.

الومضة الشّعريّة وسؤال الوعي

 لا يزال الشّعر يتصدّى لمعالجة مختلف القضايا الكبرى، والإشكاليّات الإنسانيّة. خصوصًا في ظلّ ما يشهده عالمنا الحاضر من تأزّم حادّ، وإرباكٍ عميق على الصعيدين، الذّاتيّ والموضوعيّ. وتأتي «الومضة الشّعريّة» لتحاكي العصر  في سرعته، واقتصاده، وإنسانه اللّحظويّ، المعنيّ باللّحظة الحاضرة.

ويعدّ زمن اللّحظة أبرز سمات «الومضة الشّعريّة»، بما يحمله هذا الزّمن من وعيٍ نوعيٍّ للتّجدّد المتسارع، والتّشكّل المستمر، ورفض للأبديّ والمستقِرّ. وبما يشكّله من فضاء للتّساؤل والعبور، في حركة وصيرورة دائمين.

تولد «الومضة الشّعريّة» في لحظة انفعاليّة خاطفة، تستنطق معاناة الشّاعر الطّويلة، بجمل قصيرة مقتضبة. وتعرض تخمة أزماته، بكلمات اقتصاديّة وجيزة، من دون أن يؤثّر ذلك في ثراء المعنى. فتعرض مشهدًا وجيزًا، وهي تمسك بتفاصيل نفسيّة دقيقة، متنازعة مع فوضى العالم الخارجيّ الضخمة.

وعلى الرّغم من تعيين الزّمان في «الومضة الشّعريّة»، إلّا أنّ معاينة المكان فيها، مسألة تفترض رؤية «منفتحة على الاستبصار» على حدّ تعبير هايدغر.

وانطلاقًا من الرّؤية العينيّة للومضة، فإنّ المكان الّذي تقيم فيه الومضة هو الفضاء. ويختلف الفضاء عن طبيعة المكان، من جهة أنّه مكان غير مادّيّ، مطلق، خالٍ، قديم وأزليّ. وهو ما ينسجم مع مفهوم الزّمن في «الومضة الشّعريّة»، في الخرق، والتّجاوز، والبُعد التّساؤلي عن الوجود، والانفتاح على اللّانهائيّ، والمجهول والمجرّد والمطلق.

كما تنشأ الأفكار والعلاقات مع هذا البعد التجريديّ، حدسيًّا، وتأمّليًّا، من خلال الومضة ذاتها، بُعدًا ظرفيًّا لمكان «المابين». وهو موضع وسطيّ، يحدّد الاختلاف بين عالمين، (مرئيّالأرض، لامرئيالفضاء) أو (واقعيّتجريديّ).

والـ»المابين، مرحلة تجوهر الاختلاف»4، وموضع توصيل وتفريق في الآن عينه، من دون تفضيل طرف على آخر. فهي بالقدر الّذي تقف فيه حدًّا بين عالمين، بالقدر الّذي تنفتح على الطّرف الآخر من العالم. تراوده، وتُغويه، وتناجيه. وبذلك، تكون الما بين «موضعة رحيمةتجعل النقيضين في انسجام»5. كما أنّها بموضعها الوسط، تشكّل فضاء لحرّيّة الاختلاف، والسؤال عن المعنى والوجود.

في هذا الإطار، تشكّل «الومضة الشّعريّة» برقًا في فضاء فكريّ يثير السّؤال المفضي إلى الوعي. ويبقى السّؤال في تنامٍ مع «الحواريّة الذّاتيّة»، أي مع ذات الشّاعر وذات المتلقي، في هُوِيّة واحدة، تمثّل الحضور الإنسانيّ، وهي تمارس حرّيّتها في السّؤال، بإزاء ثقافة الإجابات الجاهزة، الّتي تحرّم الأسئلة، وتكفّر التّفكير.

إنّ «الومضة الشّعريّة» بتداعياتها التّساؤلية، محاولة لتكوين أفق ثوريّ جديد، على واقع اللّغة أولًا، والتّفكير والتّعبير ثانيًا، انطلاقًا من التّجريب بما يتيح التّغيير، لتأسيس رؤية جديدة للعالم، ترسّخ الأنا هنا الآن.

أخيرًا، يبقى الشّعر أبعد في الرؤية من الفلسفة، وأعمق من التّاريخ. وهو يسبق الفلسفة في السّكن في أعماق الحقيقة المجهولة. لذلك عُدّ الشّعر ضربًا من النبوّة.

*الأدب الوجيز.

 

1 –Aristo,poétique, trad.J-Hardy,tel,272 (Paris: Gallimard,1996 (p.60

2 – ريكور والهير مينوطيقا. تحرير، أحمد عبدالحليم عطية، دار للفارابي، بيروت 2011، ط-1، ص-31.

3 – السواح، فراس، مغامرة العقل الأولى، دار علاء الدين، دمشق 2002، ط-3، ص-13.

4 – النصير، ياسين. مدخل إلى النقد المكاني، دار نينوى، دمشق 2015، ط-1، ص-188.

5 –  المصدر نفسه، ص-90.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى