أولى

حماقات الرسائل… وثغرات الحدود

 إيهاب زكي*

 

يصدف أننا في شهر شعبان، وفي شهر شعبان من العام 652هـ، أرسل فارس الدين أقطاي رسالة للسلطان عز الدين أيبك، بأنّ عروسه أميرة أيوبية يجب أن تنام في القلعة (مقرّ الحكم في دولة المماليك)، وقد فهم أيبك مضمون الرسالة، بأنّ أقطاي بزواجه من أميرةٍ أيوبيةٍ يعتقد أنّه أصبح أحق بالسلطنة، فنصب له فخاً ثم دعاه إلى القلعة، فانقضّ عليه أمراء أيبك وقتلوه، ثم أمسك أيبك برأس أقطاي وألقاه إلى الجند الذين أتوا للسؤال عن قائدهم ففرّوا جميعاً إلى الشام. وهذا يعني أنّ من يرسل الرسائل المبطنة أو المشفرة، عليه أن يكون حصيفاً بالقدر الكافي ليستقبل الردّ الذي يحب، لا أن يكون أحمقَ أو مغروراً حيث تنتظره المهالك. وهذه الواقعة التاريخية تصلح لإسقاطها على الرسالة التي أرسلتهاإسرائيللحزب الله، عبر قصفها سيارة كان يستقلها عناصر حزبية، ولكن رغم ألف نقطة مراقبة مخفية على الحدود ألقى الحزب برأسإسرائيللجنودها من ثلاث ثغرات في السلك الشائك، رغم أنّ الحزب حتى كتابة هذه السطور لم يتبنَّ رسمياً هذا الاختراق.

تحوّل حزب الله من خطرٍ على شمال الأرض المحتلة إلى خطرٍ على أمنإسرائيل، ثم إلى خطرٍ استراتيجي على مصالحها، ثم إلى خطرٍ وجودي يهدّد بقاءها. وهي في هذه الحالة كالذي يرتطم بجدارٍ يفتقد للمناطق الرخوة. فتجنّب الحرب يعني أن يراكم الحزب قوةً وقدرة، وافتعالها يعني أنّها القاصمة، والبروباغنداالتي تسمّيها سياسةمعركة بين الحروبأثبتت فشلها في تحقيق أيٍّ من الأهداف المرجوّة ميدانياً وسياسياً، لذلك فإنّ السؤال المصيري الذي على صُنّاع القرار في كيان العدو مسارعة الزمن للإجابة عليه هو: “ماذا بعد؟”.

وحتى هذه اللحظة لا إجابات أو حتى مسارات ولو أفقياً بجانب الجدار الصلد، بل مراوحة في المكان، مكانمعركة بين الحروبمع إنهاك بيِّن، حيث المرة الأولى التي يتعمّد العدو فيها عدم سفك الدم. وهذا لا يعني سوى أنّه منهك عسكرياً واستخبارياً، فعسكرياً هو لا يريد الوقوف مطوّلاً علىإجر ونص، فضلاً عن تطوّر الوقوف إلى حرب، أمّا استخبارياً فيبدو أنّه يفتقر للمعلومات الدقيقة حول طبيعة وحجم الكادر البشري كما حول النُظم لوجستياً وأمنياً التي يواجه من خلالها حزب الله جائحة كورونا في لبنان، فأراد أن يستنتج جهوزية الحزب عبر هذا الاستهداف المحدّد والمحدود.

قال السيد نصر الله في أحد خطاباته السابقةإنّ وجودنا في سورية لا يؤثر إطلاقاً في جهوزيتنا على الجبهة الجنوبية، ومن هنا يجب أن يستنتج العدو أنّه تحت المجهر على الدوام لحظةً بلحظة، وطالما أنّ عدواناً بحجم الحرب على سورية لم يجعل الحزب يغفل لحظةً عن وجوده وتحركاته، فليس من المنطق أن يعلق آمالاً عريضة على جائحة كورونا، ولكن يبدو أنّ افتقاد الخيارات يجعل من مجرد الإعلان عن الوجود خياراً مثالياً، وإلّا فإنّ هذه العملية تفتقر للشجاعة والعزم، وتنمّ عن أيادٍ مرتعشة، وهذا بعكس التصميم الذي يتميّز به حزب الله في تنفيذ وعوده ووعيده.

كما أنّ الحزب الذي يخوض حرباً أمنية قاسية على مدار الساعة مع العدو، يمتاز بالتكتم الشديد، وهو التكتم الذي ينمّ عن أولوية الإنجاز لا غبار التباهي؛ بعكس العدو الذي يبحث عن الاستعراض، حيث يشكل المربّع الأخير لإظهار قدراته، حتى أنّ ما يسمّيها سياسةالغموض البناءلم تعد قادرة على بناء ما تثلم من قدراته، لذلك يتخلى عنها لصالحالانفضاح الهدّام، حيث انهدام الهيبة التي راكمها على مدار عقود، ويحاول من خلال مراكمة الفضائح أن يصنع ميزان ردعٍ جديداً، وهي من علامات التكلّس التي لا نهاية لها سوى الكسر.

إنّ أهمّ رأسٍإسرائيليقطعه إحداث الثغرات هو أمن الجدران، فمَن أحدثَ الثغرات طعن نظرية أمن الجدران في مقتل، فلم يعد الكيان في مأمنٍ مهما تسوَّر، وإنّ أمنه المؤقت هو فقط لمجرد أنّ قرار الحرب ليس في وارد الحزب حالياً لأسبابٍ لا تحصى. وهنا على سبيل الاستشهاد فقد لفتتني ملامح الجندي الإيراني، الذي كان على متن أحد الزوارق التي اقتربت من القطعة الحربية الأميركية في الخليج، فلم تكن مجرد ملامحٍ لجندي يمارس مهامه بحزمٍ عسكري، بل كانت ملامح مليئةً بالتحفز والغضب والمقت، وأنّ العائق الوحيد أمامها عن التهام هذه القطعة الحربية حتى بالأسنان هو القرار السياسي حصراً.

وهذه الملامح ذاتها ترتسم حتماً على وجوه مقاتلي حزب الله على الحدود الجنوبية، فهؤلاء المقاتلون لا ينظرون إلى الصراع معإسرائيلباعتباره صراعاً حدودياً، أو من منطلق عدو اليوم صديق الغد، بل صراعاً وجودياً، وأنّ عدو الأمس واليوم هو عدو الأبد. ويقيناً أنّ جنود العدو رأوا نزراً يسيراً من هذه الملامح على مدار سِنيِّ الصراع. وفي النهاية وعلى سبيل الشماتة، فإنّ الإعلام العبري كما النفطي سيفتقد لحفلات اكتشافجيش المكتشفينأنفاق لحزب الله، حيث يبدو أنّ الطريق من فوق الأرض أكثر يُسراً وأقلّ تكلفة وأسرع زمناً.

 

* كاتب وباحث فلسطينيّ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى