الطريق لتحسين القدرة الشرائية وتحقيق الاستقرار المالي والاجتماعي…
يقرّ جميع الخبراء بأنّ مركز الثّقل في الاقتصاد العالمي انتقل من الغرب إلى الشرق وأنّ هذا الانتقال ليس مرحلياً إنما هو انتقال استراتيجي يؤكد انتهاء زمن تفرّد الغرب بالأسواق العالمية واحتكاره للتكنولوجيا
} حسن حردان
لا يمكن الخروج من الأزمة المالية والاقتصادية ووضع حدّ لتدهور القدرة الشرائية للمواطنين فقط بوساطة:
أولاً، وضع آلية لضبط سعر صرف الدولار ومنع التلاعب به في السوق السوداء، فهذا الإجراء ضروري ومهمّ آنياً…
ثانياً، ضبط الأسعار في السوق ومحاربة الاحتكار واستغلال التجار للأزمة لزيادة أرباحهم من خلال تسعير السلع والمواد الغذائية على أساس سعر الدولار في السوق السوداء الذي يفوق الـ 4000 دولار، في حين يستوردون هذه المواد من الخارج على سعر الدولار بـ 3200 مستفيدين بذلك من الدعم الذي تقدّمه الدولة…
هذه الإجراءات الحكومية ضرورية لكنها ليست كافية لوحدها لمعالجة الأزمة الاجتماعية والمعيشية المتفاقمة… فحتى يتمّ تثبيت سعر صرف الدولار، وتحسين قيمة الليرة، يجب أن تقترن هذه الإجراءات المذكورة آنفاً بمعالجات جادّة لأسباب الأزمة الكامنة في السياسة الريعية التي دمّرت الإنتاج الوطني، فمن دون وجود قناعة بذلك لا يمكن وضع خطة اقتصادية جديدة تقوم على دعم الإنتاج والنهوض به سبيلاً للإنقاذ…
إذن يجب الاقتناع أولاً بأنّ السياسة الريعية هي التي تسبّبت بالكارثة الاقتصادية والمالية والاجتماعية التي نعاني منها، وإذا ما وجدت هذه القناعة، وهذا ما يتحدث به المسؤولون، يجب الانتقال عملياً، ومن دون إبطاء، إلى العمل على إحداث تغيير جذري في السياسة الريعية لمصلحة اعتماد سياسة تنموية تقوم على دعم قطاعات الإنتاج، التي تشكل مصادر الثروة الحقيقية المنتجة للقيمة المضافة، والتي بدونها لا يمكن قلب المعادلة من نمو سالب إلى نمو إيجابي ورفع معدلات هذا النمو تدريجياً عبر إجراءات تساعد على تعزيز وتوسيع الإنتاج لتحقيق ثلاثة أهداف:
الهدف الأول، إصلاح الاختلال الكبير في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات، بحيث يتمّ زيادة التصدير وخفض الاستيراد، شيئاً فشيئاً، بما يقود إلى تحقيق التوازن في المرحلة الأولى ويضع حداً لنزيف العملة الصعبة ويقود إلى استقرار سعر العملة وتحسّنها انطلاقاً من قاعدة أساسيّة تقول إنّ قيمة أيّ عملة إنما تكمن في قوة أو ضعف الاقتصاد… فإذا كان الاقتصاد قوياً، أيّ معدلات نمو الاقتصاد الإنتاجي مرتفعة، فإنّ قيمة العملة تصبح قوة، أما اذا كان العكس فإنّ قيمة العملة تكون ضعيفة… ولا يمكن معالجة هذا الضعف عبر الاقتراض…
الهدف الثاني، حلّ مشكلة البطالة، فتنشيط وتوسيع الإنتاج هو الذي يوفر فرص العمل ويحلّ المشكلة الاجتماعية الناشئة من البطالة، التي تسبّب ازدياد الفقر وتعميق التفاوت الاجتماعي وبالتالي انعدام الاستقرار الاجتماعي وإحداث توترات اجتماعية في الشارع…
الهدف الثالث، تحسين عائدات الخزينة وزيادة مدخول البلاد من العملات الصعبة، وهذا الأمر ينعكس إيجاباً على ميزان المدفوعات من ناحية. وعلى الموازنة العامة بسدّ العجز الذي يعالج بالاستدانة من ناحية ثانية… وبالتالي يقود إلى وضع حدّ للاستدانة والعمل على التخلَص التدّريجي من الدين بدلاً من سداد فوائده…
لكن سلوك هذا الخيار الاقتصادي الإنقاذي الحقيقي إنما يستدعي قراراً سياسياً بالانفتاح على الشرق وعدم حصر علاقات لبنان بالغرب، لا سيما أنّ العلاقات الاقتصادية بين دول العالم باتت متشابكة بين الغرب والشرق، ونادراً ما نجد دولة ليس لها علاقات اقتصادية مع الصين على سبيل المثل، حتى أميركا نفسها التي تعتبر الصين الخصم الاقتصادي الذي يهدّد تربّعها على قمة الاقتصاد العالمي، تربطها بها علاقات اقتصادية وتجارية هي الأكبر بين دولتين… ويعود هذا التشابك في العلاقات الاقتصادية بين الغرب والشرق إلى التحوّل الحاصل في موازين القوى الاقتصادية العالمية حيث يقرّ جميع الخبراء بأنّ مركز الثّقل في الاقتصاد العالمي انتقل من الغرب إلى الشرق، وأنّ هذا الانتـــقال ليس مرحلياً إنما هو انتقال استراتيجي نابع من انتهاء زمن تفرّد الغرب بالأسواق العالمية، واحتكاره للتكنولوجيا… فالمنافسة الاقتصادية في الأسواق العالمية باتت شديدة في حين أنّ دولاً عديدة نجحت في امتلاك المعرفة والتكنولوجيا، مثل الصين وروسيا وإيران إلخ…
من هنا فإنّ المطلوب من الحكومة تغليب مصلحة لبنان في علاقاته الاقتصادية، أي أن تكون براغماتية فتقام العلاقات مع دول العالم في الغرب والشرق بناء على مدى الفائدة التي يجنيها لبنان من هذه العلاقات… ولبنان لديه مصلحة كبيرة يجنيها من الانفتاح في علاقاته مع دول الشرق حيث الأسواق الملائمة لتصدير الإنتاج اللبناني، وحيث الإمكانيات والقدرات المالية التي يستطيع لبنان أن يستفيد منها، وحيث التكنولوجيا المتوافرة لحلّ مشكلات الكهرباء والنفايات والطرق وغيرها من البنى التحتية الخدمية…