ثقافة وفنون

الشاعر بدر رستم… يخاطب الملكة من بوابة التاريخ!‏

محمد رستم*

 لا أدري لِمَ ينتابني الإحساس بضرورة أن أرتدي ملابسي الرسمية حين أبدأ بقراءة قصيدة للشاعر بدر رستم، لعلّ مبعث ذلك هو أنّني في حضرة ضيف رزين..

قصيدة مكتظّة بالوهج وهذا ما يحتّم عليّ أن أولم لها كلّ ممكنات التقدير..

لمَ لا؟ أولست العاشق لألق الضوء، وحين أختلي ببهاء فتنتها يكون العشق ثالثنا؟.

يعنون الشاعر قصيدته بـ»هالة والملكة وبوابة التاريخ»، متّخذاً من الحفل الذي أنشدت فيه هالة أمجاد الشام بصوت (جارة القمر) فيروز وسادة قصيدته. حيث أثارت كوامن الدهشة لدية لروعة الأداء وعظمة المقصود بالغناء.

فعلى أنغام «البسيط» وعلى هدي بوصلة الوطن أقلعت مراكبه.

ولمّا كانت العنونة النصيّة أولى عتبات الفعل الشعري والحبل السريّ لها، بل البؤرة التي تنطلق منها كلّ محاور القصيدة أقول:

هالة خبر لمبتدأ وضع طيّ الكتمان اكتملت قصديته الشاملة بالرابط (حرف العطف الواو) و(الملكة)، إشارة إلى سفيرتنا إلى النجوم (فيروز)، ووسّع الشاعر زوم الرؤيا فقال: (وبوابة التاريخ) أي الشام بعراقتها وهذه الواو المكررة جاءت كلباس اكتمال، ومع أنّ المعطوفات هنا هي دوال معارف وبعضها (معرفة محضة) إلّا أنّها في السياق تبقى عامة الدلالة حتى تلبسها القصيدة ثوب التخصيص.

وتتوضّح البؤرة الدلاليّة في القصيدة من خلال مجموعة من المحاور الدلاليّة من مثل المحور الإنساني والوطني (هزّي نخوة البشر.. نيرون أحرق روما.. يا بنت جلق سورية أنت.. كرمى الطفولة).

المحور الإيماني (الاتّكاء على الكثير مما ورد في القرآن الكريم. يا كف مريم. ويا رياح احملي من يوسف. فضل باسم الله في السور).

المحور التاريخي (هنا مشى الزمان.. هنا استراح).

ومنذ شهقة أوّل حرف في العنونة نلحظ الانكشاف التام للشاعر، مع حرصه الشديد لتغييب أناه، إلّا أنّنا نحسّ روحه الوطنيّة الصادقة تومئ من خلال الحروف فحبّه للوطن ليس سحابة صيف، لذا تراه عاشقاً للشام ممجداً انتصاراتها كارهاً للإرهاب فاضحاً سوءته.

وبنداء خرج إلى حيدة التوسّل والرجاء يستهلّ الشاعر قصيدته فيقول:

«يا كفّ مريم هزّي نخوة البشر.. وباركي الحسن بين الدل والخفر»

وهو إذ يرجو (مريم) المكلّلة بالشفاعة عند مليك الكون. إذ منحها الخالق طيفا من قداسة، فخاطبها بقرآنه (وهزي إليك بجذع النخلة) والشاعر هنا يرجوها أن تهزّ نخوة البشر الذين تبلّدت مشاعرهم فلم يتأثّروا بما يرون من جرائم الإرهاب.

ويتابع: ويا رياح احملي من يوسف خبراً.. يرجع ليعقوب نبض الضوء في البصر.

إنّه يطلب من الرياح أن تأتي بالأخبار السارة التي تؤكّد انتصار الوطن فيعود الأمن والسلام ويشبّه جرائم الإرهاب بجريمة نيرون الذي أحرق روما، وكأنّ التاريخ يعيد نفسه.

وأنت يا هالة الضوء التي ائتلقت.. يا بنت جلّق أخت الشمس والقمر

أنت ابنة الشام، أرض النور فالشام أخت الشمس والقمر مكانة وعلواً وإشراقاً. وهي ولود لقامات الضوء، إنّها عاصمة البدايات البعيدة وكنانة الله التي صلّى في محرابها الخلود، أيقونة الطهر التي مسّها كدر الإرهاب. وحين تتبدّى الشام ينفتح الشاعر على نوره ليتلو أوّل الإيحاء:

هنا مشى الدهر تيّاهاً من الكبر.. نشوان يخطر بين البيض والسمر، هنا الزمان على وهج الشفار مشى.. هنا استراح من اللأواء والسفر.

يقول هنا اختال المجد بكلّ كبرياء وتيه ومشى الزمان على حدّ السيف ووهج المعارك. ففي الشام يتوحّد الزمان والمكان معاً موشومين بالضوء وعبق التاريخ يمتدان من أقاصي العراقة حتى سدرة التألّق الحضاري.

ويخاطب هالة فيقول: «يا شبيهة صوت فيروز غنِّ أغنية لم يسبقك إليها أحد ولم يعزفها وتر بعد، وقولي هنا الشام أرض الأنبياء ارتوت بدماء الشهداء، فصارت طاهرة تستحق أن يحج إليها ويحرم فيها.

ويشيد الشاعر بقائد الوطن سيادة الرئيس بشار الأسد. سيف الحق الذي جاء شهاباً من لدن الخالق ليزيح الظلام فغدا قاسيون (رمز سورية ) كسيف بيده ينقضّ به على الإرهابيين كمارج من نار، (تلك الوحوش الهاربة من حروف التاريخ المتسلّلة من الكواليس المظلمة إنها عثّ المستنقعات الآسنة وما فعلته بسوريتنا أكثر من جرح تنزّ أخاديده قيحاً وصديداً). وقاسيون غداً سيفاً بكف فتى.. في فتكه كشباة الصارم الذكر، ينقضّ صاعقة والحتف في يده.. كمارج النار ألقته يد القدر.

ويتابع: غنِّ فالغناء رسالة سلام غنِّ للشام للأطيار والطيور رمز السلام والحرية والأمن غنِّ فالأشرار لا يغنون..

ويختم الشاعر بتعظيم الشهادة والشهداء، ففضلهم على الوطن كفضل البسملة التي تتفتح بها آيات الذكر الحكيم.

فاتلُ الصلاة على من بالسنا اكتحلوا.. ففضلهم فضل باسم الله في السور

والشاعر نبيل الطبع حتى حين يتناول الإرهاب، فيميط اللثام بيد الحرف عن وجوه فاقدي الأخلاق والإنسانية يظلّ راقي الخطاب:

هذي الديار أساء البعض صحبتها.. كما تسيء طيور الشؤم للشجر

وعقها من بني أرحامها نفر.. سحقاً لمن عقّ أم المجد من نفر

ويغرف الشاعر من مخزونه المعتّق بخمرة المتألق من تراثنا الأدبي فتبدو القصيدة مكتملة البهاء لا تعرف السنّ المحيّر ويبدو جليّا تأثره بخوابي ذاكرته، ما يجعل (الخاطر يقع على الخاطر) بعيداً عن صرعة التقليد إذ يتّضح نضج تجربته واكتمال التكوين الفني لديه مما يمنحه صوته الخاص.. ويضوع عطر ثقافته من خلال مفرداته القرآنيّة النكهة (فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى) كمارج النار (وخلق الجان من مارج من نار)

الخنّس الكنّس (فلا أقسم بالخنس الكنس).

وكثرة هذه المفردات القرآنية تبرز المحور الإيماني في القصيدة كذا الجنوح إلى الرجوات المغمّسة بكرامة الأنبياء والأولياء الصالحين (كرمى الطفولة.. كرمى لمريولك). والقصيدة تشي بعمق ثقافة الشاعر التاريخية فيذكر (البقيع ) و(نيرون) وتشكّل مفرداته جسر تواصل بين الماضي والحاضر.

إذ تأتي جزلة رصينة يجيد الشاعر توظيفها بألق يقربها من الحداثة، فالشاعر يقطف اللغة من منابتها وبراريها الأم (الخفر، الباذخ، عندلة، الآبق، الأشر) والمفردة لديه تضيء وتتوهّج في تماسّها وتشابكها مع ما يجاورها بما يحقق كثافة جماليّة تخلو من الحشو والإسهاب وكنتيجة لتمكّنه تأتي رياح الكلمات كما تشتهي سفنه فتراه يرمي شالاً من ألق على أكتاف القصيدة).

كذا الصورة لديه إذ يمسح عنها غبار الماضي فتبدو مدهشة (الساهرون وجفن النجم في تعب، ينقض صاعقة، الحتف في يده، مشى المجد تيّاهاً).

وكثيراً ما يعتمد التناص كأنساق استرجاعية لقصص واردة في القرآن الكريم (يا كفّ مريم . يرجع ليعقوب) حيث يبرز الشاعر تعالقاً بين الموروث الديني وبين المسار التخييلي فالقصيدة مكتظّة بالحمولات الثقافيّة والتراثية ونلحظ كيف يعتمد الشاعر التوكيد اللفظي لترسيخ مقولته وذلك بتكرار الدال (كرمى الطفولة كرمى لمريولك .هنا زرعنا .هنا الزمان .هنا ارتدى) وفي قوله هنا الزمان استراح تأكيداً على عراقة وبطولة الجغرافية في تماهيها مع التاريخ، وفي قوله سورية أنت، تبرز صرخة اعتزاز وفخر.

هذا وقد احتفى النص بطابعه الإنشائي المؤسس على مجموعة من الأساليب مثل النداء (يا كف مريم) والأمر مثل (هزي، احملي، غنِّ) وكذا الطابع الإخباري (نيرون أحرق. أنت يا هالة سورية أنت) ونلحظ كثرة الفواعل وهي كلّ ملفوظ ينقل صورة الحركة (باذخ، خافقة مستنفر هزّي، احملي .ضجّ).

هذا وقد بنى الشاعر مدماك قصيدته على أساس الثنائيات الضديّة التي تظهر روعة المقتضى على مبدأ (الحسن يظهر حسنه الضدّ (الماضي .الحاضر)، (نيرون .روما)، (سورية .الإرهاب )، (الإصباح .السحر)، (النور .الطين )، (مشى .استراح)، (الصحو .السكر ..الخ) ونلحظ التناظر المحوري بين شطري البيت الواحد (احملي خبراً.. يرجع ليعقوب نبض الضوء).

أخيراً نقول إنّ الشاعر قدّم قصيدة تشكّل معادلاً موضوعياً لواقع سورية والإرهاب إذ تنقل المتلقي ببراعة من موقف الانفعال العابر إلى حالة شعورية متماسكة ممتلئة بحبّ الوطن.

*كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى