مقالات وآراء

لربّما تمرُ قرون كثيرة قبل أن تشهد الدنيا ‏شخصيةً عظيمة مثله أنطون سعاده.. شخصيّة عبقريّة تمثّلتها روحُ أمتنا فعبّرت بها عن إرادتها

 د. ادمون ملحم

الحديث عن سعاده الفيلسوف والمفكر والقائد والرجل الذي كانت له اهتمامات عالية ورفيعة وآمالكبيرة ومطلب عظيم والذي عاش كلماته وجسّد المثل والمبادئفي ذاته وفي مسيرة حياته، والذي أطلق قضية وخاطب أجيالاًوشق لها طريقاً للحياة، الحديث عن هذا الرجل يمتدّ إلى آفاقبعيدة متشعبة وعميقة لأن هذا الرجل كان عبقرياً فذاً تخلى عنجاهه الخاص ومجده الخاص وكرّس حياته من أجل أمته ووطنهفكانت حياته كلها معاناة إذ خاض غمار تجارب قاسية تعرّضفيها للصعاب والآلام وويلات الغربة وللتشهير والدسائسوالوشايات والسجن والتهديد بالقتل مراراً، ولكنه مع ذلك لم ييأسولم يتراجع لأن ثقته بنفسه وبشعبه كانت كبيرة فواجه التحدياتبإرادة صلبة وعمل متواصل وعطاء سخيّ فكراً وممارسة وإبداعاًإلى آخر لحظة من حياته التي توّجها بقيمة الفداء وكان هاجسهالدائم والوحيد في كل المواقف خدمة أمته وإحداث نهضة حقيقيةفيها.‏

قبل أن نبحث في شخصية أنطون سعاده وتجلّياتها، لا بد من أننذكر أن سعاده الشاب الذي التحق بوالده العلامة الدكتور خليلسعاده في المهجر وخاض معه غمار العمل الصحافي والكفاحالأدبي والسياسي، أُعجب بوالده المتفوق في عمله الصحافي وفيمجالات اللغة والرواية والعلم والسياسة والوطنية، وتأثر به فاتخذهمثالاً في أدبه ومواقفه عموماً وحفظ وصيته له التي تقول: «إنكلرجل عظيم وإذا حاول العالم حولك، أن يحجب عظمتك عنالأبصار، فاضحك منه كما تضحك الشمس ممن يحاول أن يحجبنورها بكفّيه عن عيون البشر…»1‏.‏ هذا التشجيع من والده والأجواءالتي عاشها في الوطن والمهجر كوّنت عناصر حافزة في نفسسعاده لينطلق في اتجاه تحقيق «عظمته»، كما أرادها والده. وهكذاكان اهتمام سعاده بما هو كبير وواسعففي حين كان أكثرالناس حوله منشغلين بصغائر الأمور ويبذلون وقتاً كثيراً منأعمارهم فيها..، كان هو منصرفاً للاهتمام بعظائم الأمور ومنشغلاًبقضية نهوض الأمة والارتقاء بها إلى المجد.

حين نبحث في شخصية الزعيم سعاده وصفاتها، فإنه يهمنا البحثفي الأبعاد المتعددة التي تميَّزَ بها هذا الرجل ويهمنا البحث فيطبيعة معدن العظمة التي صيغت منه هذه الشخصية العملاقةالنادرة. وبعض هذه الأبعاد، وليس كلها، التي سنتكلم عنهاباختصار هي التالية:

‏‏1 -‏ في البعد التأسيسيّ:

 بينما كان سعاده الشاب الذي وعى باكراًمشكلات وطنه، على حقيقتها، يُحذّرُ في المهجر من خطر الحركةالصهيونية وينشر مقالاته الوطنية ويحضُّ على قيام نهضة حقيقيةيقوم بها شعبنا من أجل إنقاذ وطنه من مخالب الاستعمار، بدأ هذاالشاب يحلم بوجود تنظيم متماسك يجسّد أفكاره الوطنية ويقدمالحلول العملية لمشكلات وطنه الرازح تحت ظلم الانتدابوطغيانه.. ولكي لا يبقى حلمه أمراً خيالياً، بادر مع مجموعة منالشباب الثائر على ما يقوم به الانتداب الفرنسي في الوطن إلىتأسيس جمعية سرية هي «جمعية الشبيبة الفدائية السورية» التيوضع أهدافها ومبادئها وأنتخب رئيساً لها.2 ولكن سرعان ماأنسحب سعاده من هذه الجمعية بعد إصرار زملائه على وجوبالإعلان عنها وإرسال برقيات باسمها إلى قائد الثورة السوريةوجمعية الأمم. وانتمى سعاده للماسونيّة في «محفل نجمة سورية» ‏ظناً منه أنه سيتمكن من خدمة وطنه بواسطتها التي تنص مبادؤهاعلى حرية الشعوب ومكافحة الظلم والطغيان أينما وجدا.3 وبعدإخفاقه في إقناع «محفل نجمة سورية» بتأييد مطالب الشعبالسوري بالحرية والاستقلال، رأى أن استمراره في الماسونيةمضيعة للجهود والوقت فاستقال منها وانصرف لتثبيت دعائم ‏‏»حزب الأحرار السوريين» الذي أسسه في البرازيل بشكل سريأيضاً في سبيل خدمة أمته وتحقيق سيادتها على نفسها.4 وبعدعامين من تجربة نافعة استفاد منها كثيراً، راح سعاده يستعرضالتجارب والحوادث التي خاضها ويُقيّم النتائج التي حققها إلى أناقتنع بأن نضاله من أجل الأمة في بلاد الاغتراب سيبقى عملاًمحدوداً ولا بد له من العودة إلى أرض الوطن ليبدأ العمل منهناك لأنه «في الوطن نفسه لا في المهجر يُصنع مصير الوطنويتأمن مستقبله»‏ ‏.5

وعاد سعاده إلى أرضه الأم وفيها أسس عام 1932 الحزبالسوري القومي الاجتماعي بعد أن وضع دستوره ومبادئه وغايته. ‏وبهذا الحدث التاريخي ابتدأت الأمة بحركة نهضتها الجديدة بعدان أوجد سعاده الوسائل العملية لتحقيقهاابتدأت الأمة تنبعثمن قبرها في التاريخ وتستعيد دورها الحضاري كأمة هاديةومعلّمة للأمم، وبزغ فجر جديد هو فجر حريتها واستقلالهاوسيادتها على نفسها، فجر الجماعة المنظمة الناهضة فيالمؤسسات الجديدة وفي الدولة العصرية القائمة على دعائم الحريةوالواجب والنظام والقوة..

وبفضل سعاده وأفكاره انتشر هذا الحزب في أوساط الشعبوأمسى مدرسة فكرية ونضالية لها فضل الريادة في العمل الحزبيالمنظم، مدرسة تخرّج منها كثيرون وتأثر بها عدد كبير من أهلالفكر والأدب والصحافة والسياسة والفنون، مدرسة أثّرت ومازالت تؤّثر في جميع الحقول وأنتجت وما زالت تنتج مئات الكتب والمؤلفات والنشرات والمطبوعات في جميع المجالات، مدرسةلعبت وما زالت تلعب دوراً طليعيّاً في معظم الأحداث والتحركاتالقومية والشعبية وتقدم المقاومين والاستشهاديين دفاعاً عن ترابالوطن وإسهاماً في معارك التحرير والسيادة والاستقلال. وليسمن قبيل المجاملة ما أعلنه الشهيد كمال جنبلاط في معرضاستجوابه التاريخي للحكومة اللبنانية يوم أعدموا سعاده إذ قال: ‏‏»إن سعاده هو رجل عقيدة ومؤسس مدرسة فكرية كبرى وباعثنهضة في أنحاء الشرق قد يندر لها مثيل»‏‏.6 ولم يكن من باب المجاملةأيضاً اعتراف المفكر العروبي «ساطع الحصري» بدور سعاده الكبير الرائدفي التنطيم الحزبي القائم على أساس عقيدة محددة، إذ قال: «لميظهر في العالم العربي إلى الآن حزب يضاهي الحزب السوريالقومي الاجتماعي في الاهتمام بالدعاية المنظمة التي تخاطبالعقل والعاطفة معاً، وفي التنظيم الحزبي الذي يعمل بلا انقطاعفي السر والعلن، وقد استطاع هذا الحزب، بفضل تنظيماته أنيوجد تياراً فكرياً وسياسياً قوياً جداً في سورية ولبنان».‏7

 ‏ ‏2 – في البعد التأليفيّ:

كان سعاده موسوعة جليلة في الفكروالثقافة واللغة ومؤلفاً غزير الإنتاج وعظيم المقام يتصف بالدّقةوالتحليل والإبداع والتحقيق بصورة رائعة وعبارات فائقة. فلقدنشأ على حبّ اللغاتِ فتضلّع من العربيةِ وأتقنَ خمسَ لُغاتٍ أجنبيةٍوبرز مثقفاً من الطراز الرفيعِ ومطلعاً بعمقٍ على علوم شتىوعلى فلسفات وتيارات فكرية ورسالات دينيّة وحضارات إنسانيةوفنون متنوعة وكان له فيها نظرات عميقة وصريحة جداً. وتجلّتعظمته الثقافية في النتاج الفكريّ الضخم الذي تركه للأمة والذييتضمن منظومة من الأفكار والتصورات والآراء العميقة فيالفلسفة والاجتماع والاقتصاد والسياسة والدين والأدب والموسيقىوغيرها من ميادين الفكر والعلم والفنون. ويقول أستاذ الآداب فيالجامعة اللبنانية الدكتور ربيعة أبي فاضل إن سعاده «استغلّالتاريخ والأساطير والعلوم الاجتماعية والنفسية، ليخلق كتاباتكأنها الحياة جمالاً وتأثيراً وفعلاً بناءً».8

ومن مؤلفاته نذكر كتاب التعاليم وشروحها في «المحاضراتالعشر» ونذكر أطروحاته المميزة في «الصراع الفكري في الأدبالسوري» وفي «جنون الخلود» وفي «الإسلام في رسالتيه: المسيحيةوالمحمدية» وفي «نشوء الأمم» هذا الكتاب العلمي القيّم ونذكرمقالاته النقدية الرائعة وبياناته في المسألتين اللبنانية والفلسطينيةوفي مسألة لواء الإسكندرون ونذكر كتاباته القيّمة عن النهضةوالقومية والفلسفة والعروبة الوهمية والطائفية والانعزاليةوالنيورجعية والصهيونية والديمقراطية والشيوعية والنزعةالفردية والهجرة والقيم الإنسانية وغيرها من المسائل في شؤونالاجتماع والسياسة والأدب والاقتصاد التي يصعب تعدادهاكمانذكر قصتيه الرائعتين «عيد سيدة صيدنايا» و»فاجعة حب» ومذكراته وهواجسه الوطنية ورسائله الثمينة وخطبه الرائعةوأقواله الحكيمة وكل تلك تشكل تراثاً ضخماً للأمة وللأجيال،تراثاً يستقطب الدراسات والمقالات التي تنشر في دوريات، منصحف ومجلات، في الوطن والمغتربات، تراثاً يجذب الدارسينوالباحثين الأكاديميّين أولاً، لإعداد اطروحات ورسائل جامعية فيمختلف جوانب هذا التراث، وثانياً، لمقارنة سعاده كمفكروفيلسوف اجتماعي مع غيره من المفكرين والفلاسفة في التاريخ.‏‏ «فسعادهالفكر»، كما يقول الشاعر والأديب المرحوم محمد يوسفحمود، «بات للجميع، للمؤمنين به ولخصومه، كما هو الهواءللجميع، كما هي الشمس للجميع».9

‏3 – في البعد الفكريّالفلسفيّ:

فسعاده فيلسوف اجتماعي عميقالفهم والاطلاع ومشابه، برأي كثيرين، «لكبار فلاسفة الإغريقوحكمائهم، لا سيما سقراط وافلاطون وارسطو..»10‏ . وهو، كمايقول مدير الفرع الأول في كلية الآداب في الجامعة اللبنانيةالدكتور وجيه فانوس سابقاً، «صاحب دعوة حضاريّة تستغرق الوجودالإنسانيّ بكليته…»‏11 . هذه الدعوة الحضارية هي فلسفة مدرحيةشاملة تتناول جميع مناحي الحياة وتؤمن بالأمة وقوتها وتراهنعلى الإنسان الجديد المتسلّح بالوجدان القومي والعامل لخير شعبهوسعادة مجتمعه. وهذه الفلسفة العميقة تتضمن جملة من المفاهيم الجديدة في النهضة والسياسة والإنسان والحقيقةوغيرها من القيم المجتمعية الإنسانية وتقدم رؤية جديدة لإنقاذالعالم من تخبطه لأنها ترى ان أساس الارتقاء الإنساني هو أساسمادي روحي وأن النظام الجديد للعالم لا يمكن ان يقوم إلا علىقاعدة التفاعل الذي يحل محل التقاتل والحروب المهلكةوالإخضاع القسري.

وباختصار إن سعاده عكس في كل نتاجه الفكري هموماً فكريةوحضارية متنوعة تتمحور بمجملها حول نهضة الإنسان والأمةوتشدّد على «أن الحياة الإنسانية بلا مبادئ يتمسك بها الإنسان،ويبني بها شخصه ومعنى وجوده، هي باطلة».12‏ ‏ فلقد كان مبدئياًبكل طروحاته وأصيلاً في فكره وتوجهاته وخلاّقاً برؤيتهوواضحاً بمفاهيمه وصريحاً بآرائه.

‏4 – في البعد العلميّ:

كان سعاده باحثاً علمياً يؤمن بالعلم والعقلمن حيث هو الشرع الأساسي الأعلى ويدعو إلى مواكبة عصر الاختصاصالراقي الذي نعيش فيه.‏ ‏ ويشير في كتابه «أعداء العرب أعداءلبنان» بأنه إذا قصَّر بعض شعبنا عن هذه المواكبة فعلى المتعلّمينألاّ يتعاموا عن «قوة الحقائق العلمية، ووجوب إعطاء القوسباريها في كل أمر من الأمور الفنية، أو العلمية الاجتماعية،أو السياسية أو غيرها».13‏ ‏ فالعلم ينقذنا من السذاجة، وبخاصة فيالقضايا الاجتماعية السياسية. ‏وسعاده لم يكن ألعباناً في العلم والفكر والسياسة كما فعل كثيرونمن السياسيين النفعيين، بل كان إنساناً علمياً أخذ بشروط المناهجالعلمية في البحث واعتمد المنطق والدقة ووضع الفروضوصياغتها والتنقيب عن المعلومات ونقدها وإثبات صحتها أوخطئها بالاستناد إلى الحقائق العلمية والأدلة القاطعة وإلى ماتوصلت إليه دراسات العلماء وأبحاثهم في مختلف المجالات. ففيكتابه العلمي نشوء الأمم، على سبيل المثال، اعتمد منهج التسلسلالتحليلي لكي يشرح لنا المراحل التي قطعتها البشرية في الزمانحتى صارت أمماً. وكما يشير في مقدمة هذا الكتاب، فلقد أسندحقائقه إلى مصادرها الموثوق بها واجتهد الاجتهاد الكلي، فيالوقوف على أحدث الحقائق الفنية التي تنير داخلية المظاهرالاجتماعية، وتمنع من إجراء الأحكام الاعتباطية عليها.14‏ ‏ ومنيقرأ الكتاب يلاحظ أن سعاده استمد الحقائق الاجتماعية العلمية مندراسات وأبحاث قرأها في لغات أجنبية لعلماء الجيولوجياوالجغرافيا والإنتروبولوجية والآثار والتاريخ والاقتصاد والسياسةوالفلك وغيرهم.

أما في كتابه «الإسلام في رسالتيه» الذي تصدَّى فيهللشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي خلط السياسة بالّدينوتهجّم على الأديان يوضح سعاده الغاية من بحثه العلميّ فيقول: ‏‏»نحن نسوق هذا الدرس من أجل محاربة التدجيل العلمي والتدجيلالديني والاستهزاء بالتعاليم على الإطلاق، سواء أكانت دينية أمغير دينية…»15‏. ‏ ويشير الدكتور ربيعة أبي فاضل إلى أن «أبحاثالإسلام في رسالتيه» اتسمت بروح علميّة، وبتحليل أكاديميّ،وبضبط أكيد للمصادر والمراجع، وبثقافة واسعة بدت، أكثر مابدت، في المقارنات والاستنتاجات والشّواهد، وبخاصة في تكاملهذه الأبحاث، وانسجامها وعقلانيّتها».‏16

وسعاده العالم كان يشدّد على القراءة بروية وتفهّم، كي نحللبعمق وموضوعية. وهو نفسه «اجتهد كي لا يبقى كلامه مطلقاً،بدون شواهد وأمثلة تساعد غير المتخصِّص على المعرفة»‏‏.17 فقرأالكتب الأجنبية والعربية بتعمق، وسفّه بعقله العلمي الواقعيالسفسطة والتخليط والهفت والمغالطة والتفكير العامّي المنحطالخالي من كل ثقافة ودراسة صحيحة. كما سفّه كل الأحكامالغامضة والتعاميم المطلقة والآراء المضللة المرتكزة على الوهموالخيال والتعصب وقدم لنا التعاريف الواضحة والتحديدات الدقيقةوالنتائج المنسجمة والمترابطة والمستندة على أسس علميةوواقعية.‏

5 – في البعد الأدبيّ:

كان سعاده أديباً وناقداً مبدعاً وصاحب رسالةأدبية إنسانية خالدة ونظرة جديدة إلى الحياة والكون والفن. وقدتجلّى إبداعه في أبحاث ومقالات نقدية عالج فيها موضوع الأدبمن أساسه متعرضاً لحالة الفوضى السائدة في الساحة الأدبيةولفقر الأدب السوري وشقاء حاله ومنتقداً طائفة كبيرة من الأدباءوالشعراء والكتّاب الصحافيين المعروفين في الساحة الأدبية فيسورية وفي العالم العربي.18 وفي معرض نقده الموضوعيّ،هاجم سعاده الأدب الرجعي الذليل، النائح، الباكي، القاتل ثقةالشعب السوري بنفسه والقائم على التقليد والتزلف والتفجعوالتشويش والغموض والسطحية والتحريض والأنانية وإيقاظالعصبيات المذهبية وبث النعرات المفرّقة والاستهتار بالحقائقالعلمية بغاية الشهرة الشخصية والولع بالخلود. وكان هاجسهالدائم التجديد في الأدب وقيام نهضة أدبية أصلية تعبر عن روحيةالأمة وتستوعب مطامحها النفسية. لذلك أطلق نظرته ومفاهيمهالجديدة للأدب والفن والجمال ودعا الأدباء والشعراء السوريينللأخذ بها لينتجوا على ضوئها أدباً رفيعاً خارجاً من صميم حياتناالسورية، أدباً جميلاً يشع بالحب والحكمة والجمال والأمل بموادتاريخ أمتنا ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها، أدباً صحيحاًيفهم حياتنا ويعبر عن مثلنا العليا وأمانينا هو أدبالحياة، أدب النوابغ والعباقرة الجدير بتقدير العالم وبالخلود.19‏ ‏ ‏وتجاوباً مع دعوة سعاده وتأثراً بأفكاره وأخلاقه اندفعت أفواج منأهل الفكر والأدب والشعر والموسيقى والفنون والصحافة والروايةوالسيرة والبحث العلمي، تسير على خطى المعلم تضيء الظلماتبمشاعل نور النهضة وتعاليمها وتساهم في نهوض الأمة والسيربها على طريق الحق والتقدم والفلاح.

‏6 – في البعد الأخلاقيّ:

شدّد سعاده على مسألة الأخلاق واعتبرهاشيئاً أساسياً جداً في الحياة، لأنه إذا لم نتمتع بأخلاقية متينة فيهاصلابة العزيمة وشدة الإيمان وقوة الإرادة فلا يمكننا أن نحققغايتنا النبيلة ولن نحصد إلا التشويش والإخفاق وخيبة الأمل. منهنا قوله «إن الأخلاق هي في صميم كل نظام يمكن أن يكتب لهأن يبقى»‏ .20

وشدّد سعاده على القوميين الاجتماعيين بأن يسلكوا في حياتهمبموجب الأخلاق القومية الجديدة قائلاً: «إذا سارَ قومي اجتماعيعلى الطريقِ فيجب أن يعرف الناسُ بأن سورياً قومياً يسير».

وسعاده كان مثلاً أخلاقياً يُحتذى وكان معلّماً بالقدوة. فلقد عنى كُلَّما قال به وترجمه ترجمة فعلية وكان آية في المناقب الجديدة لابل مدرسة أخلاقية سامية لا مكان فيها للشوائب التي يمكن أنتشوه وجه الأخلاق وقيم الحياة وإيمان الأمة. فكان حرباً علىالفردية القبيحة والحرية الفوضوية والبلبلة والحقد والبغض والغدروالمنافسات والخصومات والمماحكات والخيانات وكل المثالبالاجتماعية ودعا «لمحو الفاسد في جميع القضايا» لا بل أوصانا ‏‏»بأن نكون طغاة على المفاسد»21 لأننا لا نعني بحركتنا لعباً وتسليةبل بناءً جديداً لا نرضى فيه إلا حياة الأحرار وأخلاق الأحرار.22

‏7 – في البعد الإصلاحيّ:

كان سعاده عالماً مصلحاً لا بل رائداً فيالإصلاح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي مطلقاً حركةإصلاحية فعلية سعت إلى تطهير المجتمع من الفساد والفوضىوالمثالب وأرست أسس الدولة العصرية الديمقراطية العلمانيةالمنتجة التي تهتم بمصالح حياة الشعب وبأهدافه السامية فيالحياة. وفي رأيه، فإن الإصلاح الحقيقي لا يبتدئ في الحكوماتبل في الشعب، ولا يكون في النصوص والقوانين بل في النفوس،أولاً وأخيراً، وفي تحريرها من المساوئ والأهواء والنزواتالفردية وتسليحها بقيم الحياة الصراعية والمناقب والوعي القوميالصحيح. فالنفوس المتحررة بقوة المعرفة والإرادة والوعيوالمناقب السامية هي وحدها القادرة على بناء المستقبل والوصولإلى مراتب العز والتقدم والانتصار.

‏8 – في البعد النفسيّ:

فقد يحتار المرء في قدرة هذا الرجل علىالتمكن من تحقيق الإنجازات والأعمال الكبيرة في عمر زمنيليس بالطويل. ولكن لا داعي للحيرة عندما نعلم أن ما حققهسعاده ما كان ممكناً لو لم يكن قد وصل إلى مستوى عالٍ منجهاد النفس والإيمان والثقة. فالحيوية الفاعلة والحركة الدائمةوالهمّة العالية والإرادة القوية والبطولة المؤمنة والعاطفة الصادقةوالتضحيات العظيمة ووقفة العز وبذل النفس كل تلك وغيرهاتعكس نفساً عظيمةً كان يتمتع بها هذا الرجل العبقريّ، نفساً كبيرةًفي إيمانها وحبها وإخلاصها وغنيةً في أحلامها الكبيرة ورغائبهاالعالية، نفساً تميزت بسلامة ذوقٍ ورقةِ إحساسِ وقوةِ شعورٍوتمتعت بإدراكٍ عالٍ وفهمٍ عميقِ، نفساً عشقت الموسيقى وتذوقتالأدب والفنون وأحبت الطبيعة وتاقت للتحرر والكمال، نفساًتسامت على الشهوات الجنسية ورأت الحب شأناً روحياً سامياً،شأناً حقيقياً لا يُعبّر عن مجرد اتحاد أجساد ووصال بل عن اتحادنفوسٍ واشتراكها في فهم جمال الحياة، وتحقيق مطالبها العليا.

هذه النفسُ الكبيرةُ التي قال عنها صاحبها بأنها تسعُ الكون ولايمكن أن تذوب وتفنى، لأنها قد فرضت حقيقتها على هذاالوجود..23‏ ‏ هذه النفسُ تمثلت روحُ الأمة فيها فتفانت بعطاءاتهاوتضحياتها من أجل الارتقاء بالأمة، وتجسّد تفانيها بآلامٍ عظيمةلم يسبق لها مثيل مؤكدة بأن المطلب الإنسانيّ والروحيّ لا تنشدهإلا النفوس الكبيرة، التي لا بد لها من أن تتألم وسط الصدماتِوهي إذ تقبل التضحيات فلأنها تعي أنَّ في التضحياتِ حياة24. ‏

‏9 – في البُعد القياديّ:

تجلّت عظمةُ سعاده في قيادته الجريئةللنهضة القومية وفي مواقفه البطولية التي شكّلت دروساً خالدةللأجيال. هذه القيادةُ النادرةُ التي شقّت الطريقَ لحياةِ الأمةِبالمبادئ التي وضعتها وبالحركةِ التي أطلقتها لحملِ هذهالمبادئ والانتصارِ بها في صميمِ الشعبِهذه القيادةُ التيأنشأت المؤسساتِ والهيئاتِ الإدارية الجديدة لحملِ قضيةِ الأمةِالمقدسةِ ولصيانةِ النهضةِ القوميةِ وضبطِ مجهودِها والتي خطّطتوشرّعت لِبناء الدولةِ القوميةِ الاجتماعيةِ الناهضةِهذه القيادةُ لمتكن وليدةَ الإراداتِ الأجنبيةِ كما هي الحالُ مع أكثر الحكّام فيعالِمنا العربي ولم تفرض نفسها على الشعب بحكمِ الوراثةلزعامةٍ عائليةٍ أو إقطاعية كما هي حال الزعامات التقليديةالمنتشرة في بلادنا ولم تأتِ بداعي التمثيل لسلطةٍ روحيةغيبيةأو لسلطةٍ ماديةٍ نافذةٍ فهي لم تدَّعِ يوماً النبوة ولا تمثيلها للألوهيةَإنما هي قيادة فريدة وقفت نفسها على حياة الأمة ورقيها وأقسمتيمين الحق غير شاعرةٍ بأنها تقدم منّة للأمةِ بل تشعُرُ بأنها تعطيالأمةَ ما يخصها من خيرٍ وطموحٍ وعظمةٍ لأن كُلَ ما فينا منالأمةِ وكُلَ ما فينا هو لِلأمة..

هذه القيادةُ الفريدة من نوعها هيزعامة أصلية جديدة منبثقة من صميم عظمة الأمة السورية ومننتاج عبقريتها ونفسيتها. وهي تعبير عن الآمال الكبيرة العالقة بهاأنفس ملايين البشر وعن إرادة أمة ستعود إلى الحياة وتثب للمجدوالفلاح. فسعاده القائد الزعيم شقّ طريقه خارجاً من صفوفالشعب وآلامه وجذب إليه الشبيبة السورية بفضل تفكيره القويمونظراته العميقة فانقادت هذه الشبيبة إلى تفكيره انقياداً ليس فيهإكراه وسارت وراءه مختارةً ومقتنعةً بمبادِئِه المفعمةِ بقيم الحقوالخير والجمال، صارت صفوفاً منظمة من آلاف السوريينومعلنة ولاءَها وتأييدها للقائد الأعلى ولزعيم الأمة المعبّر الأوفىوالأصفى عن حقيقتها ومثلها وتطلعاتها. وهذه القيادة الجريئة التيلم تتخلَ عن أقدس واجباتها وهي في ميادين القتال وساحات الدممن أجل سلامتها الشخصية والتي لم تتخلَ يوماً عن «عقيدتهاوإيمانها وأخلاقها لتنقذ جسداً بالياً لا قيمة له»‏25 ، بل رحّبت بالموتطريقاً لحياة الأمة، هذه القيادة الحية المستمرة ستبقى فعل إشعاعلا يخبو ولا ينطفئ وستبقى حاضرة في الأجيال التي لم تولد بعدوخالدة بخلود الحياة السورية.

ختاماً، نقول إنه لربما تمرُ قرون كثيرة قبل ان تشهد الدنياشخصيةً عملاقةً أُخرى كالزعيم سعاده الذي كان رجلاً استثنائياًفي ميادين الفكر والأدب والجهاد والأخلاق والعمل والقيادةوالتأسيس والتربية وإلى غير ذلك من الأبعاد التي يصعباجتماعها في رجلٍ واحدٍ.

 

1 خليل سعاده. الرابطة: مجموعة مقالات وأبحاث متنوعة، سان باولو (البرازي)، 1971، ص. 24.‏

2 نواف حردان، سعاده في المهجر، الجزء الأول، دار فكر للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت 1989، ص 138-140.

3 المرجع ذاته. ص 140.

4 المرجع ذاته، ص 145-147.

5 المرجع ذاته،. ص 195.

6 الحزب السوري القومي الإجتماعي، إستجواب جنبلاط التاريخي للحكومة حول إستشهاد سعاده عام 1949، منشورات عمدة الإذاعة، ص 94-95.‏

7 ساطع الحصري: العروبة بين دعاتها ومعارضيها، دار العلم للملايين، بيروت، 1952، ص 70.

8 ربيعة أبي فاضل. «أنطون سعاده الناقد والأديب المهجري»، مكتب الدراسات العلمية، مزرعة يشوع، ط 1، 1992 ص 236‏ .

9 راجع حديث أدلى به إلى «البناء» ونشر في 16 تشرين الثاني 1974.

10 مصطفى عبد الساتر،» شؤون قومية»، دار فكر للأبحاث والنشر، بيروت 1990، ص 30.

11 راجع الكلمة التي ألقاها الدكتور فانوس في الندوة الدراسية حول أدب الشاعر محمد يوسف حمود بتاريخ 28 نيسان 1993 وهيمنشورة في كتّيب صادر عن دار الركن.‏

12 أنطون سعاده، المحاضرات العشر 1948، منشورات عمدة الثقافة في الحزب السوري القومي الإجتماعي، ص 177. ‏ ‎

13 أنطون سعاده، أعداء العرب أعداء لبنان، 1979، ص. 43‏ .

14 أنطون سعاده، نشؤ الأمم، طبعة 1976، ص 15.

15 أنطون سعاده، أعداء العرب أعداء لبنان، ص 43.

16 ربيعة أبي فاضل. «أنطون سعاده الناقد والأديب المهجري»، مكتب الدراسات العلمية، مزرعة يشوع، ط 1، 1992 ص 129. ‏

17 نطون سعاده، أعداء العرب أعداء لبنان، ص 37.

18 من بين الأدباء والشعراء والكّتاب الذين تناولهم نذكر: أمين الريحاني، شفيق المعلوف، يوسف نعمان المعلوف، سعيد عقل، خليلمطران، ميخائل نعيمة، الياس فرحات، سليم الخوري، طه حسين، حين هيكل، عباس محمود العقّاد وغيرهم.

19  أنطون سعاده، الأثار الكاملة -1- أدب (الصراع الفكري في الأدب السوري)، بيروت، 1960، ص 64-65.

20 أنطون سعاده، المحاضرات العشر، ص 177.

21 المرجع ذاته، ص 24.

22 المرجع ذاته،  ص 167.‏ ‎

23 أنطون سعاده. «النظام الجديد» الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الأبحاث السورية القومية الإجتماعية، 1951، ص 44.‏

24 أنطون سعاده، الأثار الكاملة -1- أدب (الصراع الفكري في الأدب السوري)، بيروت، 1960، ص 155-156.

25 أنطون سعاده. «النظام الجديد» الحلقة الخامسة عشرة من سلسلة الأبحاث السورية القومية الإجتماعية، 1951، ص 48.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى