ثقافة وفنون

هل أربكت وجوه «دليلة» مقولات النقد؟

طلال مرتضى*

إن الوقوف في حضرة عمل فنّي ما، والتمكّن من فكّ رموزه وقراءة تفاصيل معماره (الخطوط ، الألوان، المساحة)، يعكس في روح القارئ متعة لا متناهية، كالانصهار في سماع مقطوعة موسيقيّة عذبة أو الغرق في حالة تأمّل بالبعيد أو التحليق في أفق ممتد حتى اللا نهايات..

فالتعبير الفنّي هو حالة قبض الفنان المبدع على انفعاله اللا مرئي وتحويله إلى حاسة يمكن رصدها بالعين المجردة أو محاكاتها بإحدى الحواس.

لكن المتعة هنا لا تتوقف عند حدّ الإطار، بل تبدأ رحلة تحول أخرى، رحلة بعث جديدة عبر المراسلة الحسيّة، فالفنان استطاع التحرّر من فكرته بعدما أطلق لها عنان الحرية، بمعنى إخراجها من سجن رأسه ليودعها ضمن حدود اللوحة، ليأتي بعد ذلك دور القارئ الذي يتلقى انفعالات الفنان والتي تصل إليه على شكل ذبذبات حسيّة ذات وهج انبعاثي لتذوب في متخيله بعد أن تتغيّر مكوّناتها ومقوّماتها من إشارات ورموز إلى رؤى..

في هذه الأثناء تأخذ الحكاية منحنى آخر، حيث تقوم تلك الرؤى بالتكاثف والتفاعل لتتحول في ذهنية المتلقي القارئ إلى أحداث ومحطات حياتية يمكن مقاربتها بالواقع الذي نعيشه..

غالباً وفي هذا المنحى بالتحديد، يذهب القارئ الفنّي إلى رمي كرة التأويل نحو مرمى الفنان، من باب أن مكنونات هذا العمل الفني التشكيلي وكل ما يدور من رؤى وأحداث وإسقاطات، ضمن مدارك إطار اللوحة من جهاته الأربع والتي تم استنباطها بالشواهد، تعود مرجعيتها وتفاصيلها ـ بغض النظر إن كانت إيمائية أو حسيّة ـ للفنان الذي استطاع التخلص منها أولاً. وهذا ما يخلق صداماً صامتاً مع النقد، تدور ارتداداته بين الفنان والمتلقي، لكون «بارت» الناقد قد وضع دستوراً قرائياً للعمل الفني أو الأدبي وحسب قوله وبتصرف: إن كل التأويلات والإشارات التي يقبضها أو يستشفها المتلقي داخل أي عمل فني أو أدبي، هي ارتدادات ذاتية، تنعكس من مرآة روح الأخير، يتم تأويلها حسب ارتدادها في نفسه ومتخيله. وهذا ما يسهم ببناء حكاية أخرى تنفتح دلالاتها نحو فضاءات جديدة وحيوات يمكن محايثتها مع مثيلات لها في الواقع أو الخيال..

وبعيداً عن هذا وذاك، لا بدّ من التسليم، في نهاية المطاف، أن العمل الفني أو الإبداعيّ هو بالمحصلة، مجموعة انفعالات متكاثفة حسياً وفكرياً، تحمل في مكنوناتها معاني إنسانية سامية..

من هذا الباب المشرّع نحو وهج الضوء، يمكن الدخول ومن غير تردّد إلى تجربة الفنانة التشكيلية الرومانية النمساوية دليلة مودورا والإيغال عميقاً لفكّ أكواد شيفرات خطوطها المتباينة الألوان داخل إطار لوحتها.

لا يستطيعُ قارئ لوحة الفنانة دليلة ردّها إلى مرجع فني أو مدرسة فنية بعينها، فالتجربة ككل خليط يميل بكفّة الميزان إلى عدم تجانس الألوان مع دلالاتها الحقيقية المعروفة، وللتوضيح، غالباً ما يتوقف المرء طويلاً ليسأل ذاته السؤال الطبيعي، لماذا دأبت الفنانة على تغيير مواضع الألوان، خصوصاً في ما نعاين من الوجوه التي قامت برسمها وعلى مراحل زمنية متفاوتة. فالألوان ومن دون الوقوف على نواصي السؤال لمعرفة سبب قتامتها وإعطائها اللبوس الداكن، فهي تحتلّ أماكن غير أماكنها، ففي الواقع لا يمكننا إيجاد وجه ذي بشرة رمادية أو شعر أحمر أو أخضر..

وفي حال تجاوز عملية تغيير الدلالات الرئيسة للون، فإننا نجد في الوجوه التي توثقها الفنانة تعباً جلياً لا يمكن أن تخطئه العين، هذا على الرغم من أن تلك الوجوه تنتمي لفضاءات مختلفة وحقب متباعدة..

ثمة خيط رفيع يربط كل الوجوه التي ترسمها، ألا وهو ملمح الشبه الكبير بين قسمات وجهها الحقيقي وما هو مأسور داخل الإطار..

وهذا ما يجعلني أعود في النهاية إلى نقطة الكتابة الأولى، كي أسأل، بما أن الوجوه التي رسمتها الفنانة دليلة اجتازت الكثير من ملامح وجهها، هل ما قرأته أنا في لوحاتها هو انعكاس لمرآة ذاتي أم ذات الرسامة؟

*فيينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى