الإنجاز الأكبر لـ «إسرائيل»: فكّ الارتباط بين الصراع العربيّ ـ «الإسرائيليّ» و»النزاع» الفلسطينيّ ـ «الإسرائيليّ»
د. عدنان منصور*
كان لقيام دولة الاحتلال الصهيوني لفلسطين عام 1948، صدى عميق وردّ فعل عنيف في أرجاء العالم العربي، هزّ الأمة كلها في وجودها وأمنها واستقرارها ومستقبلها.
لقد كان لتأسيس «الدولة الإسرائيلية» الأثر الكبير على تعاطي العرب مع القضية الفلسطينية. فهم وإنْ اختلفوا في أنظمتهم، وسياساتهم، وحساباتهم، وتوجهاتهم، وتحالفاتهم، إلا أنهم التقوا بحكم الأمر الواقع على تبني القضية الفلسطينية، واعتبروها أولى قضاياهم القوميّة المصيريّة، وإنْ كان هذا «التبني» اقتصر في كثير من الأحيان، على النظريات والعواطف، والتزاحم على رفع الشعارات البراقة التي تدغدغ مشاعر الشعوب العربية، من دون أن يقترن بالعمل المباشر الفعّال. إذ كان هذا «التبني» غالباً ما يخضع للمفاهيم الخاصة لكلّ دولة، وسلوكها وقناعتها وتكتيكها وسياستها، تفرّدت به وهي تتعاطى مع القضية من منظارها الخاص، من دون أن تتجاهل خطر الكيان الجديد على المستقبل العربي برمّته، أمناً ومصيراً واستقراراً.
كان على «إسرائيل»، أن تواجه عالماً عربياً موحّداً حول قضية قومية مركزية، بسبب رفضه وجودها، وحصاره ومقاطعته لها، وحشده دولاً عديدة في العالم ضدّها، وتصميمه على استرداد الأرض والحقوق لشعب فلسطين.
بعد عدوان «إسرائيل» في 5 حزيران عام 1967، وما نجم عنه بعد ذلك، من توقيع أكبر دولة عربية اتفاقية سلام معها، وتحييد دورها السياسي والعسكري عن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، كان لا بدّ لـ «إسرائيل» العمل بكلّ قوة، وعلى مختلف المستويات، وفي كلّ الاتجاهات، على إبعاد الدول العربية الواحدة تلو الأخرى عن القضية الفلسطينية، التي اعتبرتها يوماً قضيتها المركزيّة، حيث بدأت «إسرائيل» بتسهيل ودعم أميركي، بعد اتفاقية «كامب دايفيد» عام 1978، بنسج علاقات سريّة مع العديد من دول عربية، كانت في الشكل مع القضية، وفي الأساس مع إنهاء الصراع العربي «الإسرائيلي»، وإنْ جاء على حساب فلسطين والفلسطينيين، وعلى حساب الأمة وشعوبها.
عمدت «إسرائيل» إلى العمل منذ عقود، على تقزيم الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وحصر «الخلاف» بينها وبين الفلسطينيين إلى حدّه الأدنى، وجعله عادياً يسهل حله. إذ أنه بإبعادها العرب عن قضيتهم ومقاومتهم، سيتيح لها في أول فرصة، تصفية القضية الفلسطينيّة من أساسها، مستندة إلى دعم واعتراف عربي مباشر، يوفر لها الغطاء الشرعيّ الذي تبحث عنه منذ عام 1948.
بعد مصر والأردن، التحق مؤخراً بركب الاعتراف الرسميّ العلني بـ «إسرائيل» كلّ من الإمارات والبحرين والسودان والمغرب، وهناك مَن يقف في الصفّ، ينتظر الفرصة السانحة لينتهزها، ما جعل العدو يحقق إنجازاً كبيراً، فاق كلّ حدود، لم يكن ليحلم به يوماً ويتوقعه. بعدما استطاع أن يفكّ الارتباط بين الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، «والنزاع» الفلسطيني ـ «الإسرائيلي»، حيث يحلو له استخدام هذا المصطلح (النزاع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي») والتركيز عليه من قبله، ومن قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
لقد تمكّنت «إسرائيل» من تحييد وادي النيل لمصر والسودان، وإبعاده عن أيّ خطر يشكله لها. كما تمكنت من تحييد غالبية دول شبه الجزيرة العربية عن الصراع، وضمّها الى صفها وفلكها، لتصبح شريكاً وحليفاً لها. ولم تتوقف تل أبيب عند هذا الحدّ، بل استمرّت في توسيع مروحتها التطبيعيّة، حتى وصلت الى المغرب لتلقى الترحيب العالي بها والرعاية المتميّزة اللافتة من ملكها، رئيس لجنة القدس. بكلّ تأكيد لن تتوقف شهية العدو عند الحدود التي توصل إليها حتى الآن، بل سيستغلّ «الكرم» و«السخاء» والاندفاع العربي باتجاهه، كي يستمرّ في نهجه على ضمّ المزيد من الدول العربية إليه.
أما في منطقة الهلال الخصيب، فقد استطاع أن ينتزع اعتراف الأردن والسلطة الفلسطينية بوجوده، ولم يبق في الميدان العربي، إلا بضعة فوارس مقاومين أحرار، يلتزمون بالقضية ويقارعون العدو ويقضّون مضجعه، متمسكين بالحقّ العربي حتى الرمق الأخير.
لا يمكن لأيّ عاقل، أن يتجاهل مخاطر الاعتراف العربي والتطبيع مع «إسرائيل»، ولا يمكن له التخفيف من وطأته وخطورته والاستخفاف به. «إسرائيل» عمدت ونسجت على مدار عقود بدهاء وخبث على حصر الصراع بينها وبين الفلسطينيين الى حدّه الأدنى. فبعد حرب حزيران1967
كان لها ما أرادته بعد تخاذل وتواطؤ بعض العرب معها.
فعلى الجبهة العربية، سبق لنتنياهو في شهر شباط من العام الفائت، أن أعلن في كلمة له أثناء مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية في القدس الغربية جاء فيها؛ «أطوّر علاقات مع دول عربية وإسلامية وأستطيع أن أقول لكم إنّ دولة أو دولتين أو ثلاثاً منها لا تقيم معنا علاقات تتعزز باستمرار»…، مضيفاً «إنّ ما أقوله ليس إلا 10 بالمائة فقط مما يحدث من علاقات سرية تجمع «إسرائيل» بدول عربية في المنطقة»!
أما على الجبهة الفلسطينية، فقد استطاعت «إسرائيل» فكّ الارتباط بين قطاع غزة والضفة الغربية، الذي ضرب في الصميم الوحدة الفلسطينية، مانعة بكلّ الوسائل التقارب بين الضفة والقطاع. فعندما فكت «إسرائيل» ارتباطها بقطاع غزة وانسحبت منه، صرّح الناطق الرسمي باسم آرييل شارون، دوف ويسغلاس Dov Weissglas، لصحيفة «هآرتس» الاسرائيلية في 6 تشرين الأول 2004، ليكشف بوضوح النيات الاسرائيلية المبيّتة ليقول: «إنّ معنى خطة فك الارتباط مع غزة، هو تجميد مسار السلام، وإنّ تجميد مسار السلام يعني منع قيام دولة فلسطينية، ومنع إجراء محادثات حول اللاجئين، والحدود والقدس. نتيجة لذلك فإنّ المسألة المسماة دولة فلسطينية مع كلّ ما يترتب عن ذلك ستُسحب من جدول أعمالنا»!
نتيجة لفكّ الارتباط بين غزة والضفة، وفك الارتباط بين الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، و«النزاع» الفلسطيني ـ «الإسرائيلي»، لن يبقى في نظر «إسرائيل» بعد ذلك سوى نزاع «عادي» مع الفلسطينيين، لا علاقة له بالاحتلال الصهيوني لفلسطين. إذ يتصوّر العدو أنّ بإمكانه مع مرور الوقت، ويأس الفلسطينيين وإحباطهم، التوصل الى ايجاد إخراج وترتيب ملائم له، لإنهاء القضية من أساسها، حيث لم تعُد المسألة بالنسبة له مسألة احتلال، وقد انتزع الاعتراف الدولي به، ومن عدد كبير من دول العالمين العربي والإسلامي بوجوده.
إن فك ارتباط الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» عن القضية الفلسطينية ومقاومتها، يأتي ليؤكد على حقيقة كانت «إسرائيل» تتمسّك بها، ومعها حلفاؤها الدوليون والإقليميون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وهي تقويض الموقف الفلسطيني وحقوق الفلسطينيين، بعد أن أعفى الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان «إسرائيل» من مسؤوليتها عن محنة اللاجئين، لتتابع الإدارة الأميركية في ما بعد في عهد بيل كلينتون، وقوفها الكامل بجانبها، وذلك عندما أصدرت الخارجية الأميركية عام 1993 كتاباً أبيض بعنوان «إعلان مبادئ» لمّحت فيه إلى أنّ واشنطن تعتبر الضفة الغربية وقطاع غزة أرضاً متنازعاً عليها، وليست أرضا محتلة!
إنّ أخطر ما في الاعتراف العربي بـ «إسرائيل»، هو إبعاد العرب عن العدو، وتحييد دورهم وجعلهم في صفه، وفي المقابل لجم قدرة المقاومين الفلسطينيين وشلّ إرادتهم، وعزل «سلطتهم» الوهميّة، من خلال الحرص على تثبيت فكّ الارتباط بين المقاومين الصامدين في القطاع،
والمستسلمين لواقع الحال في الضفة، الذين ما زالوا يراهنون بحماقة على بعض الإجراءات «الطيبة» للعدو و«كرمه»، وتنفيذ ما اتفق عليه في أوسلو عام 1993…
متى ستقتنع السلطة الفلسطينية بأنّ «أوسلو» لن يوفر لها اليوم ولا غداً الدولة الفلسطينية! ومتى ستقتنع أنّ «إسرائيل» لن توقف بناء المستوطنات، وعمليات مصادرة الأراضي وترحيل سكانها، وأنّ الرهان على دور الراعي الأميركي سقط نهائياً، وأنّ المقاومة وحدها، لا غيرها، كفيلة بتحرير الأرض؟!
ومتى ستدرك السلطة الفلسطينية التي تستنزف الوقت، انّ «نياتها الطيبة» تشجّع العدو وتدفعه الى التمادي في تغيير الهوية القومية والثقافية لفلسطين وشعبها بالكامل؟
إذا كانت «إسرائيل» قد أفلحت وحققت إنجازاً كبيراً في تحييد الدور العربي عن فلسطين، وتعمّدت تحويل الصراع من صراع عربي ـ إسرائيلي»، الى «نزاع» فلسطيني ـ «إسرائيلي» بسيط، فإنّ الرهان اليوم، ينصبّ بالدرجة الأولى على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وعلى وحدتهم،
ومقاومتهم للاحتلال، وتنسيقهم مع القوى والدول الداعمة لهم لإفشال ما يحضّره العدو الإسرائيلي للقضاء بالكامل على قضيتهم وعلى حقوقهم.
إنّ تحييد «إسرائيل» لدول عربية ارتضت الخروج عن الصف العربي، ليس إلا لوقت… فالذي لم تستطع «إسرائيل» تحييده عن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» الدائم، هي الشعوب العربية التي ترفض الوجود «الإسرائيلي» من جذوره، وترفض التطبيع معه بكلّ أشكاله، والذي يتعارض كلياً مع إرادتها ومبادئها وقيمها. الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» صراع طويل وسيستمر، وإنْ حاول إخماده بعض المرتدّين عن الأمة. فالكلمة الفصل في النهاية لشعوب الأمة، وبالذات شعب فلسطين الذي بوحدته ومقاومته، يستطيع تصحيح المسار واستعادة ما خسره على مدى قرن من الزمن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.