نقاط على الحروف

أسرار القوة الإيرانيّة الذكرى الـ 42 للانتصار

 ناصر قنديل

 

عندما تقول الدولة الأعظم في العالم على لسان رئيسها المنتخب حديثاً إن أولويتها هي العودة الى اتفاق سبق ووقع مع دولة وألغته إدارة سابقة، وتكون الدولة المعنيّة هي ايران، فهذا يعني أن هذه الدولة نجحت ببناء القوة والاقتدار بحيث صار المسار التفاوضي السلمي هو الطريق الوحيد الممكن لحل القضايا العالقة معها، ويعني الاعتراف بفشل خيارات الحروب والضغوط والعقوبات، ويعني أن هذه الدولة نجحت بتحويل حضورها، سواء في الملف التقني المتطور لمشروعها النووي أو في حجم تأثيرها على العناصر التي تتشكل منها اللوحة الاستراتيجية في المنطقة الأهم في العالم التي تتوسّطها إيران وتسمّى بالشرق الأوسط والتي تتركز فيها موارد الطاقة، والممرات والمضائق المائية التجارية الاستراتيجية، ويقع في قلبها الكيان الأهم في حسابات الغرب الذي يمثله كيان الاحتلال الواقع تحت رحمة تنامي قوة إيران وقوى المقاومة. وهذا معنى أن يقول الخبراء الأميركيون أنه لولا إيران بعد الثورة الإسلامية لكانت كل الأزمات الأميركية بما فيها مع روسيا والصين قابلة للاحتواء، وأنه لا يمكن مقارنة التحدي الإيراني بتحدّي حرب فييتنام، ولا حتى بتحدّي ظهور الصين على المسرح الدولي، فالتحدّي الإيراني يفوقها جميعاً من حيث الجدية والاستمرارية.

السؤال الذي يطرحه الخبراء الغربيون وغيرهم حول كيفيّة تمكن إيران من تحقيق هذا الصعود الكبير خلال أربعة عقود، بالمقارنة مع دول تملك مقدرات عظمى، عالمية وإقليمية، يصطدم بالطريقة التقليدية للتفكير والتحليل المستمدّة من نمطية غربية مهيمنة على مدارس السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع حتى في غير الغرب، خصوصا عندما تقارن التجربة الإيرانية المستمرة في الصعود المفتوح، بتجربة الاتحاد السوفياتي التي انطلقت مع ثورة 1917، وتنامي نهضة الأحزاب الشيوعية في العالم، وتبوّء موسكو موقعاً قيادياً في منظومة الدول الساعية للتحرر والاستقلال، والتي فقدت بريقها بعد أقل من ثلاثة عقود في الحرب العالمية الثانية كقوة ثوريّة، وتحوّلت الى مجرد دولة عظمى تتقاسم النفوذ مع الدول الغربية، ضمن ضوابط المصالح المتبادلة. وعندما تعرّض العملاق السوفياتي لشح في الموارد، دون ما تعرّضت له إيران ولا تزال بكثير، بدأ الانهيار والتفكك، وظهر أن جمراً تحت الرماد كان يسكن الدول التي كانت تبدو حليفاً شيوعياً موثوقاً، لم تلبث ان انهارت من دون حرب، وتحولت الى دول اعضاء في الحلف الأطلسي.

ربما تشكل المقارنة مع التجربة السوفياتية فرصة لفهم أقرب للتجربة الإيرانية، فأوجه التشابه القائمة لجهة المقارنة بين ثورتين قامتا على بعد عقائدي وتطلعتا لتشكيل مركز استقطاب على المستوى الدولي، تتيح تظهير أسرار القوة الإيرانيّة وتميز مصادرها، خصوصاً في كيفية تفادي الوقوع بما أصاب التجربة السوفياتية من أمراض وثغرات، مع الأخذ بالاعتبار تفوق العقيدة التي تستند إليها الثورة الإسلاميّة من بُعد روحي نابع من إيمان ديني صادق، لجهة ما يوفره من بحث عن حياة أخرى، شرطها تطبيق صارم لمنظومة قيم وقواعد تنتظم تحت عنوان السعي لمرضاة الله، لكن هذا العامل لا يستطيع الإجابة عن سبب فشل تجربة موازية كتلك التي خاضها الأخوان المسلمون في مصر، خلال أقل من سنة من وصولهم إلى السلطة، على أكتاف ثورة شعبيّة شكلوا التنظيم الأقوى في مكوناتها، توجت عبر انتخابات ديمقراطية حملتهم الى السلطة، في بلد لا يملك موقعاً جغرافياً وسياسياً ومكانة وحجماً بما يجعل المقارنة مع إيران واقعية، بينما تعادل النموذجان السوفياتي والإيراني في التمسك بقرار مستقل وبناء قوة عسكرية مقتدرة والسعي لتحقيق أعلى درجات الاكتفاء الذاتي.

نجحت إيران بتفادي مخاطر تعدّد القوميات الذي أدى إلى تشكيل الفالق الحاسم في تفكك الاتحاد السوفياتي، بتحويل الإسلام من مجرد عقيدة إلى هوية للدولة الأمة، بالاستناد إلى تراث حضاريّ ثقافي زاخر يوفره الإسلام وتعجز عن توفيره أي عقيدة أخرى، ويشكل إطاراً مفتوحاً نحو الدول والقوميّات الواضعة خارج حدود إيران، وخصوصاً ما كان يعرف ببلاد فارس تاريخياً، والتي لا تزال للغة الفارسيّة فيها مكانة ثقافية واجتماعيّة، وشكل هذا الحل العبقريّ الذي ابتكره الإمام الخمينيّ مصدراً لتشكيل صعود الهوية الجديدة كبديل يحل مكان الهوية القومية التقليدية، التي تحوّلت الى هوية من الدرجة الثانية، التي تحظى بالاعتراف والاحترام من الدولة الإسلاميّة، وبالتوازي نتج عن هذه الهوية للدولة الأمة، تحديد هدف عنوانه فلسطين ومقدّساتها كحق ومسؤولية بالنسبة لكل دولة او حركة إسلامية، فصار ما يُعرف بالنفوذ الذي تشوبه عملية استغلال انتهازية لقضايا الآخرين في حالة الاتحاد السوفياتي، التزاماً بقضية عقائدية بالنسبة لإيران تلزمها وتلتزم بها مع الآخرين بصفتها قضيتهم المشتركة. وبينما تشيخ قضايا النفوذ وتهرم وتنكشف، تبدو قضية فلسطين أكثر ما يختصر ويختزن قضية الصراع مع مشروع الهيمنة الأميركية على العالم وليس على المنطقة فقط، بحيث إنها قضية قابلة للحياة لأمد غير قصير، ويرتبط حلها وفق مضمون الالتزام الإيراني، بتحقيق إصابات بالغة وقد تكون قاضية بحضور الدولة الأعظم المهيمنة على العالم، ويعني هذا الحل تغييراً جذرياً في هوية دول المنطقة وتوازناتها، وأشكال وهويات أنظمة الحكم فيها، وفقاً لاصطفافاتها على خطوط الاشتباك حول هذه القضية.

نجحت إيران بخلاف الاتحاد السوفياتي، رغم فوارق الالتزام بالعقيدة لصالح قوة نفوذها وتأثيرها في الحالة الإيرانية قياساً بالاتحاد السوفياتي، بالتحرر من القوالب الجامدة تحت عنوان الالتزام العقائديّ، فبنى الإسلام في إيران دولة عصرية، تأخذ كل مخرجات علوم السياسة والعمران والقانون والإدارة وكل عناصر الحداثة العلمية في البحوث والدراسات، من الانتخابات وتداول السلطة الى البورصة وصولا الى الاستنساخ البيولوجي، وحولت العقيدة الى عامل صناعة الضوابط والكوابح لا توليد المطلوبات، فكل شيء ينتجه العلم مقبول ما لم تكن الموانع العقيديّة ذات تبريرات صارخة ووازنة بدرجة لا تقبل التأويل. فالدين يهتم بالتدقيق في ما يستحق المنع، والباقي مسموح بل مطلوب، والمنع يستدعي مراجعات من مؤسسات متعدّدة تراقب وتدقق في مندرجات الطلب والمشروعية والمصلحة، فعملت العقيدة من الخارج الى الداخل بحيث يتم تلقي كل وارد من الخارج، وتتولى العقيدة في الداخل بعضاً قليلاً نادراً من التدخلات، بينما في التجربة السوفياتية كانت العقيدة تشتغل من الداخل الى الخارج، فعليها هي أن تستولد نماذج جديدة في العلم والتربية والاقتصاد والاجتماع وصولاً الى مخرجات العلم. وبالتوازي نجحت إيران في اعتماد نموذج لممارسة الحكم يعمل من تحت الى فوق، حيث الشعب صاحب سلطة فعليّ، والمرشد كممثل للعقيدة عنصر ضبط إيقاع وتوازنات بين العناصر والقوى والقضايا والمصالح والقوميّات، بينما قام النموذج السوفياتي على العكس، أي من فوق الى تحت، فقيادة الحزب تعين السلطات وتدمج وتذيب المكوّنات، وتلغي الخصوصيّات، وتدير وفق نمطية عقائدية تقوم بصياغتها ما يجب أن يكون عليه المجتمع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى