ثقافة وفنون

القراءة في الدرجة صفر والقصة القصيرة جداً/ الوجيزة*

} منذر فالح الغزالي**

على الرّغم من أن القصة القصيرة جدًا من أحدث الفنون السّرديّة، فإنّها باتت أكثرها انتشارًا وكتابة، ساعد على هذا الانتشار الشّبكة العنكبوتيّة، وحريّة النّشر وسهولته، إذ لا يكاد يخلو قطر عربيّ من رابطة للقصّة القصيرة جدًا على منصة الفيسبوك.

وعلى الرّغم من أنّ النقّاد لهذا الفنّ السردي يضعون لها قواعد وشروطًا، فإنّ القصّة القصيرة جدًا لا تزال خاضعةً للتّجريب، قادرةً على توليد شروطها وأساليبها التي تكتمل بها، لتكون نوعًا كتابيًا خليقًا بأن يصبح جنسًا مستقلًا له مكانه في ديوان السرد.

ومع اختلاف المسميّات، فإنّ الكلّ مجمعون أنّ التكثيف هو أهمّ شروط القصة القصيرة جدًا. وبرأيي الشّخصيّ فإنّ التّكثيف هو عين القصّة القصيرة جدًا، وهو مبرر وجودها، فما القصة القصيرة جدًا إلا موقفٌ من الحياة أو في الحياة، يكثّفه الكاتب ويركّزه ويطلقه سردًا على شكل قصة قصيرةٍ جدًا.

وكي يكون التّكثيف ذا جدوى، ولا يزعزع كيان الحكاية، أو يفقدها تماسكها، يستعين الكاتب بعددٍ من التقنيات التي تساعده في اكتناز الدّلالات، كالرّمز والتناص والحذفإلخ.

إنّ الكاتب في لحظة الإبداع يكون في حالة فكرٍ مطلق، وحالما يبدأ بتجسيد هذا الفكر، لغةً، برموزٍ وإشارات ينفجر الإبداع كالبرق يحمل طاقةً هائلة، في وميضٍ خاطف، باهر الضّوء، يحدّد، بذاته، اتجاهه ومساره وشكله وطبيعته، بحيث تنثال مساحة الضوء بعد انطلاق شرارة البرق على اتّساع الفضاء المتاح أمامههذه هي القصة القصيرة جدًا، وهذه هي قراءاتها: شرارةٌ مكتنزة بالطاقة، تومض في لحظةٍ قصيرة جدًا، يعقبها ضوءٌ ينداح في جميع الفضاءات وبجميع الأطياف. التّكثيف إّنما هو اكتناز النّص بطاقة دلاليّة شديدة التّركيز، والقارئ حين يفرد هذه الشّحنة الدّلاليّة، إنما يرى الانثيال الشّاسع الذي يغمره ضوء النّص في أفق التّأويل.

 الكاتب، حين يضع نصًّا، لا يقرر كيف سيكون شكل نصّه، لأنّ الإبداع ليس قرارًا إراديًّا، إنما هو حالة إشراق لا واعية. والكاتب، في لحظة الإشراق الإبداعيّ، يكون في تماهٍ تامٍ مع الفكرة، أشبه بالغيبوبة، أو السّكر الصوفي، يصبح كلّه فكرة.

وحين يتحوّل هذا اللاوعي إلى لحظة واعية من أجل نقل الفكرة المجرّدة إلى رموز وعلامات، هذا الانتقال الفجائيّ أشبه بلحظة تماس بين قطبين متعاكسين: قطب الفكر الخالص، المجرّد، وقطب اللّغة التي تحتاج إلى إرادة  واعية لإنتاجها، يعبّر عنه الكاتب بطرق تختلف باختلاف طبيعة الكاتب وثقافته ومزاجه وطقوسه. هو أشبه بشرارة برق تمزّق حجب الوعي تخترق الفكرةُ فيه اللغةَ، تتوحّد معها توحّدًا تامًا، فلا يكون أي انزياح بين الفكرة واللّغة. هذه حالة أشبه بحالة حلميّة تخلق اللّغةُ رموزَها وإشاراتها المناسبة لطبيعة الفكرة وعمقها واتساعها ومقدار ضغطها على الوعيهنا يخلق النّص بشكل ومضة أو قصة قصيرة جدًا، أو قصة قصيرةحسب طبيعة الدفق الإبداعيّ وحاجاته.

هذه الحالة هي التي أسماها «بارت» الكتابة في درجة الصّفر، كتابة تكون فيها اللّغة مساويةً تماماً للوعي، اللّغة والفكرة متوحّدان واللّغة تحتوي الفكرة وتعبر عنها بشكلٍ تامّ.

هذه الكتابة في الدّرجة صفر تحتاج قارئًا من الدّرجة صفر أيضًا، ذاك الذي سيقرأ «وعي الكاتب» متمثلًا في لغة النّص المتحدة مع الرّوح، فلا حاجة للقارئ أن يبحث عن مقاصد الكاتب ورؤاه وطبائعه، إذ  يكون كلّ ذلك متضمنًا في اللغة التي يقرؤهاإنّه القارئ في درجة الصّفر، يقرأ وعي الكاتب مباشرةًهذه هي الفكرة الأساسية لموت المؤلف لدى البنيويين.

الكاتب حين ينقل وعيه الخالص إلى نصٍّ مكثّف، يتوسّل بكلّ ما أمكنه من تقنياتٍ أسلوبيّة وكتابيّة، مجرّبًا أحيانًا، مبتكرًا أحيانًا، حسب مقتضيات النّص وحاجته. وكل هذا يتمّ بشكل لا إراديّ بفعل التّجربة الطّويلة والاعتياد الذي تولّده الخبرة والمهارة.

وكل فكرة أو حالة تستدعي أساليبها، رموزها أو تناصّاتها، بغفلة عن وعي الكاتب؛ لكن مستفيدة في الوقت ذاته من مخزونه الثقافيّ والوجدانيّ، أي يعكس جزءًا من روحه في نصّه بكلّ أبعاد الرّوح الثّقافيّة والوجدانيّة والحسّيّة، تلك التي رسّختها التّجربة الطّويلة في لا وعيه، ذاكرته العميقة التي هيّجتها لحظة الإبداع المتوهجة والحارة للإمساك بالفكرة التي تشكّل في الجانب الكتابيّ هدف النّص وقصدههذا هو جوهر القصّة القصيرة جداً، وهذه هي فلسفتها ومبرر وجودها، ومن هنا تأتي عناصرها وشروطها.

في الخاتمة أورد ما ذكره الكاتب أحمد جاسم الحسين: «لا توجد قراءة جامعة مانعة لأي عمل إبداعيّ مهما كان مستوى العمل أو مستوى القراءةالقصة القصيرة جداً نصّ إبداعي يترك أثره ليس في ما يخصّه فقط، بل يتحوّل ليصير نصاًّ معرفياً دافعاً لمزيد من القراءة والبحثفهو محرّض ثقافيّ يسهم في تشكيل المتلقي عبر تناصّاته ورموزه وقراءاته».

 

*  يطلق ملتقى الأدب الوجيز على القصة القصيرة جدًا مصطلح القصة والوجيزة.

** المهندس منذر الغزالي من أصدقاء ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى