أولى

السيسي وإدارة ملفات الأمن القوميّ!

 د. محمد سيد أحمد* 

ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي أتحدث فيها عن الأمن القومي المصري، الذي جعلني موكب المومياوات المهيب أثناء الاحتفال بافتتاح المتحف المصري الجديد ونقل المومياوات إليه هذا الأسبوع، أستعيد بذاكرتي كلّ ما علق بذهني من قراءاتي في التاريخ القديم والحديث والمعاصر عن كيف كان العظماء في تاريخنا يتعاملون مع ملفات الأمن القومي المصري، وكيف نشبت الحروب دفاعاً وهجوماً من أجل حفظ الأمن القومي المصري بدءاً من مينا موحّد القطرين ومؤسس الأسرة الأولى الفرعونية، مروراً بأحمس طارد الهكسوس ومؤسس الأسرة الثامنة عشر الفرعونيّة، وصولاً إلى محمد علي باشا وولده إبراهيم باشا صانعاً نهضة مصر الحديثة حيث خاضا حروباً عديدة لتأمين حدود مصر الشرقية والجنوبية، وانتهاءً بجمال عبد الناصر طارد الاحتلال البريطاني والمتمدّد بالأمن القومي المصري عبر ثلاث دوائر كبرى هي الدائرة العربية والدائرة الأفريقية والدائرة الإسلامية.

ومع انتهاء حكم الرئيس جمال عبد الناصر تغيّرت صورة الأمن القوميّ خلال العقود الأربعة التالية حيث انكمشت الدوائر الثلاث للأمن القومي المصري بشكل كبير فتوترت العلاقات مع الدائرة العربيّة وقطعت في بعض الأحيان، وتمّ الانسحاب التدريجي من الدائرة الأفريقية مما أدّى إلى غياب التأثير المصريّ في هذه الدائرة الحيويّة والتي تمدّنا بشريان الحياة، وأهملت الدائرة الإسلاميّة ونشبت الخلافات مع بعض الدول الإسلامية، ومع انطلاق مشروع «الشرق الأوسط الجديد» في جولته الأخيرة تحت مسمّى «الربيع العربي» المزعوم في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 كانت دائرة الأمن القومي المصري قد انكمشت بشكل كبير لدرجة غير مسبوقة حيث أصبحت الدائرة تتمحور حول حدودنا، ولم تنتهِ فترة حكم الإخوان الإرهابيّين القصيرة إلا والأمن القومي الحدودي مهدّد من الجبهات كلها، فمن الشرق الذي يقبع فوقه العدو الصهيونيّ محتلاً للأرض العربية الفلسطينية عبرت جحافل الإرهابيين إلى أرض سيناء، ومن الغرب قام حلف الناتو بغزو ليبيا العربيّة وإرسال آلاف الإرهابيين في محاولات للتسلل للأراضي المصرية، ومن الشمال هدّدت مصر من خلال محاولات اقتحامها عبر مياه المتوسط، ومن الجنوب نشبت أزمة سد النهضة، هذا بالطبع إلى جانب خلخلة الأمن القومي الاجتماعي بتوقف كلّ المشروعات الإنتاجيّة في الداخل.

وجاء الرئيس عبد الفتاح السيسي لسدة الحكم وكان عليه منذ اليوم الأول أن يقوم بإدارة ملفات الأمن القومي الساخنة على الجبهات كلها، وبالطبع كانت حالة الأمن القومي المصري في أسوأ حالاتها التاريخيّة، وتحتاج مشرط جراح ماهر في التعامل معها، وحكمة وحنكة وصبراً كبيراً، حتى لا تندلع النيران وتلتهم ثوب الوطن وتقضي عليه، والأهمّ من ذلك هو فقه الأولويات لكن للأسف الشديد لم يكن لدى الرئيس السيسي رفاهية هذا الفقه فكلّ ملفات الأمن القومي المصري تحوّلت في لحظة واحدة إلى أولوية لا يمكن تأجيلها، وبالفعل كان القرار بالخوض فيها جميعاً دفعة واحدة، ووقف الشعب المصري يترقب ماذا سيفعل رئيسه الجديد الذي قدم روحه على كفه حين قرّر الانحياز لانتفاضة الشعب المصري ضدّ الجماعة الإرهابيّة والمطالبة بالإطاحة بها من سدة الحكم، وقد كان في ذلك الوقت القائد العام للقوات المسلحة المصرية مدرسة الوطنيّة الحقيقيّة، وأنجز الرجل مهمّته الأولى بنجاح ووقف منذ اليوم الأول ليصارح شعبه بحقيقة مؤلمة وهي أننا نعيش في شبه دولة، وكان الرجل يعي جيداً كلّ ما يقول.

 وخلال السنوات السبع الماضية قام بإدارة ملفات الأمن القومي المصري ببراعة نادرة، ففي الشرق خاض الجيش المصري بكامل قواته وعتاده معركة شرسة على كامل جغرافية سيناء وقام بتجفيف منابع الإرهاب، وكانت أزمة السفينة الجانحة بالقناة قبل أيام معبّرة عن قدرة مصر على إدارة الممر المائي العالمي بجدارة واقتدار، وكانت رسالة للعالم أجمع بأننا قادرون على حماية أمننا القومي من جهة الشرق، وفي الغرب تدخل بشكل مباشر ولا يزال في حلّ الأزمة الليبية وعندما ارتفعت وتيرة التهديد إطلاق صرخته المدوّية بأن «سرتالجفرة خط أحمر»، في الوقت الذي شيّد فيه قاعدة محمد نجيب لحماية الأمن القومي المصري من الغرب، وفي الشمال كانت قواتنا البحرية جاهزة لتأمين مياه المتوسط عبر أكبر عملية لتسليحها بأحدث القطع البحرية في العالم، وفي الجنوب كانت جولات إدارة أزمة سد النهضة عبر مفاوضات طويلة ومتعثرة وبصبر شديد حتى كانت صرخته المدوية الثانية الأسبوع الماضي بأنّ «مياه مصر خط أحمر لا مساس بها، ولا يتخيّل أحد أنه خارج نطاق قدرتنا»، وهي رسالة واضحة للعالم أجمع ولكلّ من تسوّل له نفسه بالعبث بشريان حياة المصريين، في الوقت الذي شيّد فيه قاعدة برنيس العسكرية في الجنوب وهي أكبر قاعدة عسكرية في أفريقيا والشرق الأوسط لحماية الأمن القومي المصريّ من الجنوب.

ولم يكتفِ الرئيس السيسي بإدارة ملفات الأمن القومي المصري الحدوديّة الملتهبة فقط بل أدرك وبوعي تام أن الأمن القومي الحدودي لا ينفصل عن الأمن القومي الاجتماعي الذي يعني الاستقرار التام بالداخل والعمل على بناء مشروعات تنموية عملاقة فكانت قناة السويس الجديدة إلى جانب المشروعات التنموية المتنوّعة على أرض الفيروز، وشبكة الطرق العملاقة غير المسبوقة، والعاصمة الإدارية الجديدة، وتطوير العشوائيات، وبرامج تطوير الريف المصري، وتكافل وكرامة وحياة كريمة، ورفع الحد الأدنى للأجور، كلّ ذلك في ظلّ مواجهة تحديات أزمة كورونا، فالأمن القومي الاجتماعي يعني بناء الإنسان وتوفير كلّ احتياجاته الأساسيّة كمواطن عبر مشروعات إنتاجية حقيقية، لذلك تتطلب المرحلة المقبلة دعماً كاملاً للرجل الذي أدار ملفات الأمن القومي المصري بجدارة واقتدار، لنقول مصر عادت شمسك الذهب، اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى