الوطن

سجالات السياسيين ثرثرة
ما قبل الإفلاس والسقوط…

} علي بدر الدين

يُروى أنّ ملك قبيلة اعتقل رجلاً من قبيلة أخرى، فقصدته هذه القبيلة بشيوخها وفرسانها وكبارها وصغارها، لتطالبه بالإفراج عنه. فوجئ الملك بهذه الحشود التي جاءته من أجل الإفراج عن رجل عادي، وسألهم، من هذا الرجل الذي جئتم من أجله، وتطالبون بإطلاقه؟ أجابوه بصوت واحد، إنه أميرنا وراعي قبيلتنا، فقال لهم الملك، لم يخبرنا عن نفسه، فقالوا له بثقة، لأنه أنف أن يذلّ نفسه، وأراد أن يريك عزّته بقومه. فما كان من الملك إلا الاستجابة لطلبهم وأمر بإطلاق سراحه، وأكرم وفادة القبيلة وأكثر عليها من الهدايا.

بعد أيام، وصل خبر إلى الملك، أنّ الرجل، الذي أطلق سراحه ما هو إلا راعي الإبل عند القبيلة، فغضب وأرسل إليهم مستفسراً عما صنعوه به وخداعه، وجاءه الردّ الصادم منهم «لا أمير فينا إنّ ذل راعينا، ولا خير بقوم ضاع فيهم حق ضعيفهم لحساب قويّهم».

المنظومة السياسية والمالية الحاكمة بكلّ مكوّناتها وتوجهاتها وطوائفها ومذاهبها وسياساتها وارتهاناتها وتبعيتها، خطفت شعباً بأكمله، «بأمه وأبيه» وبكلّ طبقاته ومناطقه وطوائفه ومذاهبه، ولو كان من بيئاتها الحاضنة، ومرتهن وتابع لها، وحوّلته جميعاً إلى فريسة سهلة للفقر والجوع والبطالة والمرض والقهر والذلّ والحرمان والإهمال، منذ عقود من الزمن، وحان أوان نتائجها السلبية جداً، وتداعياتها الخطيرة التي قوّضت أسس الوطن، وأطاحت بالشعب وجرّدته من كلّ حقوقه، وأدّت إلى انهيار الاقتصاد وإفلاس الخزينة العامة والسطو على الأموال العامة والخاصة، وإلى جعل هذا البلد المنكوب، مثالاً للفساد والنهب والسمسرات والمتاجرة بحقوق الإنسان، بعد أن كان  شعب لبنان العظيم يسطع حضوره ونجاحه حيث تشرق الشمس في قارات العالم، وجعلته منبوذاً ومتسوّلاً ومهرّباً وتاجراً شاطراً في تسويق المخدرات، والتدليل على طبقته السياسية الحاكمة، بأنها من أسوأ حكام العالم، وأكثرهم فساداً ونهباً وجشعاً ونفاقاً.

وبدلاً من التراجع عن سلوكها التدميري والتخريبي والإفسادي، والاكتفاء بما راكمته من ثروات على حساب الفقراء من شعبها، ومن استغلالها للنفوذ والسلطة والمال الذي يعاني لبنان الوطن والشعب والدولة والمؤسّسات من مأساويته وكارثيته، فإنها تزيد إمعاناً في مواصلة السير بنهجها، وكأنها مصمّمة على بناء مزارع خاصة وحصرية، بعناوين طائفية ومذهبية وسلطوية وزعائمية، بديلة للوطن والدولة والمؤسسات، لأنها باتت على ما يبدو، على «قاب قوسين» من الإنهيار والإفلاس، (وهي كذلك) لأنها فقدت مقومات السلطة المسؤولة، وباتت عاجزة وفاشلة، وأكثر ارتهاناً وتبعية للخارج الدولي والإقليمي، ولم يعد بمقدورها ان «تقلي  بيضة».

ولم تعد تملك من القرار والسلطة سوى الكلام الفارغ  والثرثرة، وكأنها في مباراة في الإلقاء أو الخطابة او اطلاق نصوص» أدبية» او لغوية غير معتمدة وغير مسبوقة، في أسواق التجاذبات والسجالات السياسية ، وفي الخروج عن قواعد السياسة وضوابطها ولغة التخاطب. إنّ مكوّنات هذه المنظومة الحاكمة بلغت مرحلة الإفلاس والسقوط والغرق في «شبر ماء»، وفقدت كلّ إمكانية للفعل والتفاهم وإيجاد الحلول وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وفعلاً «فاقد الشيء لا يعطيه»، وتحوّلت إلى سلاح الكلام الأجوف الذي لم يعد فاعلاً لإثارة الغرائز واستنهاض الجمهور إلا بقدر معيّن ومحدود، يقتصر معظمه على المستفيد الأول سلطوياً ومالياً ونفوذاً وتشبيحاً وفساداً، لذا فإنّ السلطة ومكوّناتها السياسية والمالية ،ستخسر «معاركها» قريباً، لأنّ الثرثرة لا تبني وطناً ولا دولة ولا تجذب شعباً، وهي كما تقول الأديبة والروائية الفلسطينية سلوى البنا «الثرثرة تعني أن لا نجد جديداً نقوله في وقت مطلوب منا أن نملأ الفراغ».

ما «زاد الطين بلة»، انّ الشعب اللبناني الذي سلبته الطبقة السياسية الحاكمة حقوقه ولقمة عيشه وكرامته وإنسانيته، وتركته يواجه قدره بنفسه، ويبحث عن ضروراته اليومية العالية الثمن، وينتظر من يدعمه بمبلغ متواضع من المال او إعاشة، وهي بكلّ وقاحة تبحت عن سلطتها التي اقترب ضياعها، وعن مستقبلها السياسي، وحصتها في الآتي من الزمن، إذا ما بقي وطن للجميع، وقد يولد بفضلها ومن رحمه «أوطاناً» خاصة، وهذا هو الخطر المدمّر بعينه.

هذا الشعب المسكين، تلاحقه المصائب والويلات، وآخرها الجراد، ومواجهته بلا داعي للهلع والخوف، وهو يتكاثر ويأكل الأخضر واليابس وما تبقّى من أرزاق للبنانيين، بعد ان فتك بها جراد حكام لبنان قديمهم وحديثهم.

في حين أنّ وصول الجراد الى لبنان «ألهم» الشعراء ماضياً  وحاضراً وقال أحدهم:

شو جيت تعمل هون

لون الطمع لابس

فتش ع تاني كون

تراب الأرض عابس

عنا لإلك ما عاد

لا في أكل ولا زاد

الحكام سرقوا بلاد

الأخضر بأرضي رماد

وقضيوا على اليابس.

وسنة 1951 غزا الجراد لبنان، فنشرت مجلة العرفان قصيدة للشاعر موسى الزين شرارة قصيدة يشبّه فيها حكام لبنان بالجراد والعلق:

عد يا جراد كما أتيت فعندنا

علق يمصّ دماءنا وقراد

ما ترتجي أو ما تريد فكلنا

حقل وكلّ الحاكمين جراد.

ويتوجه الى الشعب فيقول:

لولا سكوتك عنهم ما أمعنوا

في جورهم وفسادهم وتمادوا

لولا سكوتك ما بنوا من فقرنا

هذي القصور الشاهقات وشادوا

وجب الجهاد فلا الكلام بنافع

مل الندي وملت الأعواد.

انها مقاربة واقعية بين حكام الماضي والحاضر وفي كلّ العصور، وقاسمهم المشترك الفساد والجور وما يحفزهم على أفعالهم الشنيعة هو سكوت الشعوب.

فعلاً لكلّ مقام مقال…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى