مقالات وآراء

المرض اللبناني المزمن والطبيب المعالج…

} د. عدنان نجيب الدين

مشكلتنا في لبنان تكمن في مسألتين: الذهنية السياسية اللبنانية والنظام الطائفي.

والذهنية السياسية اللبنانية مثلها مثل كلّ ذهنيات العالم العربي تقوم على الأحادية الشخصية وليس على العقل المؤسساتي.

فالعقل المؤسّساتي يتطلب تعقلاً واضحاً لمفهوم الوطن والمواطنية وممارسة عملية لبناء الدولة وإداراتها وأجهزتها وبرامجها على مختلف الصعد الاقتصادية والتربوية والدفاعية والصحية إلخ…

أما هذه الذهنية السياسية الطائفية والفئوية فكلّ ما فعلته هو أنها أفرزت نظاماً طائفياً تحاصصياً أدّى الى عشعشة الفساد وسيطرة الفاسدين على إدارات الدولة. فأصبح المسؤول الذي يدير إدارته أو وزارته بذهنية طائفية عاجزاً عن التعاطي مع المواطن كمواطن، بل التعاطي معه على أساس انتمائه الطائفي أو المذهبي وكذلك الحزبي، ثم يجري استزلام البعض من أبناء طائفته لتوظيفه في عملية الفساد فيكون واجهة يختبئ خلفها المسؤول الفاسد.

وهذه المذهبية تعمّقت بعد اتفاق الطائف، أو على الأقلّ بعد سوء الممارسات التطبيقية لاتفاق الطائف بدءاً من الترويكا وصولاً إلى التنازع على الصلاحيات التي تكرّس زعامة هذا الشخص أو ذاك في طائفته، ولا تخدم المواطن في شيء.

وتلعب اللعبة الإعلامية دورها، فتسلط الأضواء على مسؤول استنكف عن الانخراط في منظومة الفساد، وذلك لتشويه صورته وتدميره، او التهجّم على جهة معينة لها الفضل على البلد في عملية تحريره من الاحتلال وردع العدو «الإسرائيلي» وحفظ السلم الأهلي، وذلك لشيطنتها وتصويرها بأنها وإنْ لم تكن فاسدة «لكنها تحمي الفساد»، علماً بأنها لو زلّت قدمها لحصلت الحرب الأهلية التي يطمح لها أعداء لبنان… كلّ ذلك من أجل التعتيم على الفاسدين الكبار الذين سرقوا مالية الدولة بمئات الملايين بل بمليارات الدولارات وهرّبوا معظمها إلى الخارج، وهؤلاء هم الذين أسّسوا لهذا الانهيار المالي والاقتصادي منذ بداية التسعينات من خلال الاستدانة والنهج الاقتصادي الريعي الذي أهمل مفهوم الاقتصاد المنتج، وهم المسؤولون بالدرجة الأولى.

ويجري البعض مقارنة بين هذه الفترة السوداء من تاريخ لبنان وفترة «البحبوحة» التي عاشها اللبنانيون قبل هذا الانهيار، والصحيح هو أنّ تلك البحبوحة المدّعاة قامت على خداع كبير، كمن يقترض أموالاً ثم يبدّدها يميناً وشمالاً ويظنّ أنه غني لأنّ في جيبه أموالاً سرقها من أموال المودعين أو من القروض التي حصل عليها لبنان من الدول «المانحة» وهي بالأساس ليست له ولا لعائلته وحاشيته بل مخصّصة لإنتاج الكهرباء ومشاريع اقتصادية وبنى تحتية…

وهكذا فإنّ أموال المغتربين اللبنانيين والأموال الخليجية والسورية والعراقية لم تكن إلا ودائع وظفت في المصارف اللبنانية إما للحصول على فوائد عالية، وإما للثقة في النظام المصرفي عندنا، لكن المسؤولين بدّدوها من خلال دعم سعر صرف الليرة بلا مبرّر من جهة، أو في الهدر والسرقات من جهة أخرى، بدل أن يوظفوها بالمشاريع الاقتصادية والبنى التحتية والقطاعات الإنتاجية.

ويبقى أنّ المسؤولية الكبرى تقع على جهل معظم اللبنانيين بالقادم الأسود الذي يعيشونه اليوم، والذي كان ينتظرهم نتيجة تلك السياسات، وانحيازهم الأعمى الى زعماء الطوائف الذين خدعوا طوائفهم بحجة حماية الحقوق… وهكذا كان الشعب اللبناني ضحية تلك السياسات العقيمة والمدمّرة.

وإذا كان لسائل أن يسأل: أين كانت المجالس النيابية اللبنانية طيلة هذه العقود من السنين؟ لماذا لم تراقب؟ ولماذا لم تحاسب؟ ولماذا لم تصوّب المسار؟

الجواب هو في الذهنية السياسية الطائفية وهي مرض عضال. وكيف لهذه المجالس ان تحاسب بناتها، أيّ الحكومات المتعاقبة، وهي التي أنجبتها…؟ كيف لها أن تحاسب أبناءها وهم الوزراء الذين حازوا رضاها ورعايتها حتى شبّوا واغتنوا وباتوا يمتلكون الثروات…؟

اليوم، يشترط الغرب الذي كان يعرف بفساد المسؤولين في لبنان، يشترط علينا للبدء بإقراضنا بعض المليارات المقسطة من أجل تنفيذ مشاريع البنى التحتية شرطين: الأول هو رفع الدعم عن كافة السلع والخدمات مع ما يولده هذا الرفع من انهيارات اجتماعية كبرى، أما الشرط الآخر فهو الأخطر، لأنه شرط سياسي: انه ترسيم الحدود البحرية في الجنوب بشكل يخسر فيه لبنان مئات المليارات من الغاز والنفط لمصلحة «إسرائيل»، والقبول بتوطين الفلسطينيين وقسم كبير من السوريين، وجعل «إسرائيل» مهيمنة على «الشرق الأوسط الكبير» كما نظر لذلك شمعون بيريز وكونداليزا رايس.

والاستعصاء السياسي والانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي الذي يقف عنده المسؤولون مكتوفي الأيدي معروفة طريقة الخروج منه، وهو تغيير العقلية الانبطاحية أمام الغرب، والوقوف وقفة عزّ ولو لمرة واحدة، فتذهب إلى الجهات الدولية الأخرى كالشركات الصينية والروسية التي تعرض علينا تنفيذ المشاريع الاقتصادية من كهرباء ومواصلات ومرافئ وغيرها، بحيث توظف هذه الشركات أموالها في هذه المشاريع ثم استثمارها على سنوات يتمّ التفاوض عليها مع الحكومة اللبنانية مقابل ان تدفع جزءاً من الأرباح للدولة سنوياً إلى حين انتهاء العقد فتعود ملكيتها للدولة اللبنانية المتعاقدة معها. وهكذا يمكن أن نتجنّب قروض البنك الدولي وشروطه القاسية علينا.

لكن، للأسف، المسؤولون عندنا إما مستنكفون، أو ما زالوا يتسلون بمماحكات تأليف الحكومة وزيراً زائداً هنا أو وزيراً زائداً هناك، فيما الشعب مقهور ومشغول بتأمين رغيف الخبز وعلبة الحليب لأولاده وحبة الدواء للمرضى الذين يزداد عددهم وتقفل في وجههم أبواب الصيدليات والمستشفيات.

شفانا الله من هذا المرض المزمن الذي اسمه الطائفية والمذهبية، والذي أنتج ورماً خبيثاً اسمه الفساد… ولكن الشفاء من هذا الورم الخبيث يحتاج إلى طبيب معالج، ودواء يشفي… من هو يا ترى هذا الطبيب؟

بالطبع، لن يكون هذا الطبيب شخصاً بعينه، ولا جهة بعينها، ولا وصي ولا انتداب، بل يقظة شعب ووعي وطني وحسّ بالمسؤولية الجماعية، وعلى اللبناني أن يفهم

بأنه مواطن يجب أن ينتمي الى دولة تحكمه بالقانون لا بالزبائنية، ويجب ان تكون هذه الدولة عادلة، لا أن يكون خادماً عند زعيم يبتزه… عليه ان يتعلّم المواطنية الصادقة بدلاً من الطائفية المميتة. لقد حان الوقت لكي ننظر إلى بعضنا البعض على أننا مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، واليوم نحن متساوون بالحرمان، لكننا أيضاً متساوون بالتطلعات إلى لبنان وطناً تسوده العدالة والإنصاف، وتنتفي فيه الطائفية والفساد، وطناً حراً، سيداً بالفعل، ومستقلاً عن إرادة الهيمنة الإمبريالية الداعمة للعدو «الإسرائيلي» ومطامعه في أرضنا وثرواتنا، قوياً بإمكانياته الذاتية وبدعم كلّ الأحرار الذين يقاومون الظلم والحروب العدوانية على الشعوب، وينشدون العدالة والحرية والسلام.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى