أولى

لماذا الصين…؟

 زياد حافظ*

 إذا كانت الصين القوة الصاعدة في آسيا فعلينا أن نتعرّف أكثر عليها ونستخلص الدروس والعبر من إنجازاتها. مما لا شك فيه أنها ابتكرت نموذجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً يستحق الدراسة والتمعّن. فهناك دولة يقودها حزب شيوعي عريق ساهم في تنمية سوق اقتصادية ونموذج إنمائي وتنموي حقّق نجاحات باهرة سواء في معدّلات النمو السنوية التي كانت أرقاماً قياسية لم تشهدها أيّ دولة في التاريخ المعاصر كما حقّقت إنجازاً لم تحقّقه أية دولة من الدول التي تدّعي التقدّم والريادة وهو نقل 250 مليون صيني من مستوى تحت خط الفقر إلى مستوى الطبقة الوسطى وذلك خلال ثلاثين سنة فقط. هذا بحدّ ذاته يكفي لدراسة ذلك النموذج.

وإذا نظرنا إلى ما أنجزته الصين خلال عام 2021 نرى مدى القدرة على تقديم صورة مبهرة لنظامها السياسي والاقتصادي. فخلال العام الذي اجتاحت جائحة كورونا معظم دول العالم بما فيها الدول التي تدّعي التقدّم والريادة استطاعت الصين أن تجعل 96 بالمئة من الصينيين مالكي مساكنهم في المناطق الحضرية! كما استطاعت ان تقول إنها قضت على الفقر الفائق حيث رفعت 99 مليون صيني من المناطق الريفية إلى مستوى الطبقة الوسطى. كما أنّ عدد الوفيات من جائحة كورونا لم يتعدّ أكثر من 6 بالمئة من عدد الإصابات. وجائحة كورونا لم تكن المشكلة الوحيدة التي واجهت الصين في العام المنصرم بل الحرب الاقتصادية مع الولايات المتحدة. والنتيجة كانت مذهلة. فرغم حرب التعرفة الجمركيّة المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين زادت التجارة الخارجية مع الولايات المتحدة بنسبة 28،7 بالمئة سنة 2021 ما يوازي 756 مليار دولار. وهذه الزيادة تشكّل 16 بالمئة من التجارة الخارجية الإجمالية للصين التي بلغت 6 تريليوات دولار. هذا يعني أنّ العجز في الميزان التجاري لصالح الصين بلغ 396 مليار دولار وزاد بنسبة 39 مليار دولار عن عام 2020. هذا يعني أنّ فرض تعرفة ورسوم جمركيّة من قبل الولايات المتحدة لم تغيّر شيئاً بالنسبة للإنتاجية والجودة الصينية والاتكال على البضائع الصينيّة لتشغيل الاقتصاد الأميركي فتكامل البنية التجاريّة يصعب تفكيكه بقرارات من النوع التي فرضتها الولايات المتحدة!

ليس هناك من دولة «متقدّمة» تستطيع أن تسجّل تلك النتائج. لكنها لم تكتف بذلك ونسرد بشكل سريع أبرز الإنجازات التي حققتها الصين خلال العام المنصرم.

أولاً، نمت الصين بـ 2 تريليون دولار في القوّة الشرائية فحقّقت أكبر نسبة نمو في العالم لتلك السنة بينما شهدت معظم الدول المتقدمة تراجعاً في معدّلات نموّها بل دخلت في حالة انكماش كبير.

ثانياً، أصبحت أغنى دولة في العالم وفقاً لتقرير أعدّته شركة مكينسي الأميركية. والصين أصبحت أكبر دولة تستثمر في الخارج حيث نسبة نمو الاستثمارات الخارجية تجاوزت 12 بالمئة لعام 2021 وبلغت أكثر من 152 مليار دولار شملت 45 ألف شركة في 189 دولة إضافة للاستثمارات في دول الطريق الواحد والحزام الواحد. أما على صعيد الطاقة فالأرقام مذهلة. ففي تلك السنة أنتجت الصين مليون ميغاوات من الطاقة المتجدّدة (12 صفراً بعد رقم واحد!) كما حقّقت ما يوازي 55 بالمئة من التوفير في استهلاك الطاقة. فمن جهة إنتاج لطاقة متجدّدة ومن جهة أخرى ترشيد في استعمالها.

ثالثاً، استطاعت الصين بناء ثلاث أكبر وأسرع آلات الحاسوب في العالم (exascale computers) نالت من خلالها جائزة غوردون بال. ومصطلح «اكزاسكيل» مصطلح مصطنع جديد يرمز إلى إمكانية إجراء احتساب أكثر من مليار تيرا عملية في الثانية، أيّ واحد و18 صفراً بعد الواحد! وهذا الحاسوب أسرع من حاسوب غوغل سيكامور بعشرة آلاف مرة! لم تعد شركة غوغل الوحيدة في العالم التي تملك ذلك النوع من الحاسوب بل أصبحت تشاركها الصين. وهنا الاحتمالات كبيرة لإجراء محرّكات بحثية أسرع وأكفأ من محرّك غوغل أو ما يشابهه في العالم. والدليل على ذلك استطاعت أن تبني شبكة تواصل تجارية على مسافة 3000 ميل.

وعلى صعيد المواصلات استطاعت الصين إنجاز شبكة تواصل بين الأقمار الاصطناعية عبر طاقة اللازير (laser) أسرع بعشرة آلاف مرة من التواصل عبر موجات الراديو. ومن المفارقات انها استطاعت ان تغطّي مقاطعة التيبت بشبكة مكوّنة من مليون محطة مزوّدة بتكنولوجيا 5جي أسرع مما هو موجود اليوم في نيويورك!

هذه بعض الإنجازات التي تحقّقت خلال العام الماضي ولا نستطيع جرد قائمة أكبر من ذلك لأنها لا تضيف على ما نقصده وهو أنّ الصين في عام صعب على العالم كله لم تتوقف عن استكمال مسيرة النهوض والتقدّم.

المفارقة الكبيرة هنا هي أنّ الصين أصبحت «المنتج» الأول في الصناعة في العالم. الغرب بشكل عام والولايات المتحدة بشكل خاص أصبحت خاضعة للصناعة الصينية. فالصناعة الأميركية قامت بتوطين العديد من مراحل إنتاجها في الصين بل ربما معظم صناعاتها. فالصين إذا أرادت تستطيع أن توقف العجلة الاقتصادية بشكل تامّ في الولايات المتحدة إذا توقفت عن تصدير المستلزمات للصناعات الأميركية بما فيها الدفاع والتكنولوجيا. الغرب والولايات المتحدة بحاجة إلى الصين أكثر مما الصين بحاجة إلى الولايات المتحدة وحتى في صناعة الميكرو شيب الضرورية في برامج التشغيل الحاسوبية على المستويات كافة. والصين اليوم تسيطر على 85 بالمئة من إنتاج المعادن النادرة الضرورية في القطاعات التكنولوجية المتطوّرة ولا يستطيع الغرب أن يفعل شيئاً. كلّ ذلك تمّ إنجازه في ثلاثة عقود من الزمن. فكيف استطاعت الصين الوصول إلى تلك المرتبة؟ ألا يستحقّ ذلك التوقف عنده ودرسه؟

طبعاً المشكّكون لا يستطيعون إنكار هذه الحقائق، ولكن يسترسلون بـ «الصعوبات» و»العوائق» التي تواجه الصين وأنّ تلك الوتيرة من التقدّم لا يمكن أن تستمرّ. فمعدلات النمو التي فاقت 11 بالمئة سنوياً امتدت على أكثر من عقد لم تعد ممكنة. ما تحققه الصين اليوم هو ما يوازي 8 بالمئة أو أكثر ولا يزال يشكل أكثر من ضعف ما تحقّقه الدول الغربية. فلا خوف من تباطؤ في النمو بل ربما إعادة النظر في الاستثمارات حيث التركيز سيكون على رفاهية المواطن بدلاً من الإنتاج الصرف. هذا ما جاء في خطاب الرئيس الصيني بمناسبة الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الحاكم.

والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو كيف تمّ التوافق بين حزب شيوعي ومعتقداته المعروفة مع مقتضيات اقتصاد السوق؟ والسؤال الثاني الناتج عن السؤال الأول فهل يمكن القول إنّ نجاح النموذج الذي يجمع التناقضين الأساسيين، أيّ مركزية القرار السياسية وتقويض الملكية الخاصة من جهة وحماية الملكية الخاصة والحرّية في التعامل كأساس لاقتصاد السوق، فهل هذا النجاح يعود إلى ظروف استثنائية أو إلى ثغرات في العمق الفكري في كلّ من الفكر الشيوعي والفكر الليبرالي؟

الإجابة على السؤالين ليست سهلة لأنّ قضايا عديدة تدخل في الحسبان. فإذا أردنا أن نبحث في «الظروف الاستثنائية» فهذا يعود إلى قرار الانفتاح السياسي في السبعينيات على الغرب وذلك بعد المبادرة الأميركية لفصل الصين عن الاتحاد السوفياتي. لم تكن حسابات الحقل متطابقة مع حسابات البيدر من الزاوية الأميركية بينما الرهان الصيني كان في محلّه للاستفادة من التفوّق الاقتصادي والتكنولوجي الأميركي لبناء القاعدة الاقتصادية الصينية دون أن يكلّف ذلك الأمر الاستغناء عن القاعدة العقائدية للحزب الشيوعي الحاكم. وهنا تكمن المفارقة الكبرى. هذا يعني أنّ القيادة الصينية أدركت منذ قرار الانفتاح انّ إعادة هندسة المجتمع وفقاً لمعتقد سياسي لن يأتي بثمار بل قد يحفّز الشعب على الابتعاد عن القيادة والتمسّك بالموروث المجتمعي التاريخي. لذلك فشلت الثورة الثقافية واستدركت القيادة الخطر. فكانت حقبة تمكين وتأهيل الشعب الصيني والدولة والاقتصاد. خطاب الرئيس زي جينبينغ في الذكرى المئوية للحزب الشيوعي شدّد على الموروث التاريخي. وخلافاً لثقافة الثورات فالتاريخ لا يبدأ مع حقبة الثورة بل قبلها. هذا ما استوعبته القيادة الصينية أنّ الموروث التاريخي الصيني عامل أساسيّ في فهم سلوك الصينيين وذلك دون أن تكون أسيرة له. فبهذه الذهنية المنفتحة استطاعت الصين أن تستوعب الإضافات التكنولوجيّة على المنظومة المعرفية الموروثة دون أن تمسّ بشكل جوهري ذلك الموروث. بل العكس، استطاعت عبر ذلك الموروث معالجة أخطاء فادحة ارتكبتها الحقبة السابقة عندما أقدمت على تحديد النسل. فتلك السياسة أدّت إلى فقدان التوازن بين الذكور والإناث وإلى تفوق نسبة الذكور على الإناث ما أدّى إلى انخفاض في الخصوبة والتجدّد السكّاني. ما نقصده هو أنّ القيادة السياسية استوعبت الدروس من الماضي وتطوّرت مقاربتها للأمور ما مكّنها من النهوض وبالشكل المبهر الذي شهده العالم بأسره.

إشكالية التوافق بين تأميم وسائل الإنتاج لبناء مجتمع اشتراكي وفقاً للمعتقد الشيوعي وضرورات السوق التي تقضي على قوّامة الملكية الخاصة وسيطرتها وفقاً للمعتقد الليبرالي لم تكن حلّها عملية سهلة. ما يغيظ الغرب هو أنّ نموذجه وصل إلى طريق مسدود بينما النموذج الصيني الذي اتهمه بالتحجّر والتكلّس استطاع أن يبدي المرونة المطلوبة التي عجز عن توفيرها النظام الليبرالي وخاصة في نسخته النيوليبرالية. فبينما التخطيط في النموذج الغربي كان في السوق وخاصة السوق المالي كان التخطيط بيد الحزب والسلطة المركزية الذي منع الانحرافات الحتمية التي تفرضها ممارسات السوق والتي عجز عن منعها النظام النيوليبرالي وخاصة في ما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية. فالأخيرة ليست أولويّة في النموذج الغربي بينما العكس هو في النموذج الصيني. فآلية السوق وحركته تؤدّي حتماً إلى تكوين احتكارات ما يؤدّي إلى انخفاض في الإنتاجية وتنامي الدخل الريعي وتفاقم الفجوة الاجتماعيّة بين قلّة تملك الثروة وأكثرية فقيرة. والنتائج أمامنا، القضاء على الفقر بينما القفر ينتشر في النموذج الغربي وخاصة في النموذج الأميركي حيث يوجد 45 مليون أميركي تحت خط الفقر، أيّ ما يوازي تقريبا 14 بالمئة من عدد سكان الولايات المتحدة. في المقابل، أشرنا أعلاه أن استطاعت الصين في العام الماضي انتشال ما يوازي 99 مليون صيني إضافي من خط الفقر إلى الطبقة الوسطى. ألا يستوجب ذلك الدراسة، وهذا بغضّ النظر عن «الكلفة» و»التداعيات» الافتراضية التي يطلقها الغربيون بحق الصين ونموذجه؟

ما ندعو إليه هو الكفّ عن اعتبار الغرب قدوة يجب الامتثال به وضرورة دراسة النموذج الصيني. لا نستطيع في مقال واحد مقاربة كافة مكوّنات النموذج الصيني. فهذا يستدعي سلسلة من المقالات تركّز على نواحٍ نعتقد أنها مهمة كقضية التوافق بين المركزية للقرار السياسي والتخطيط ودور السوق. كما أن لا بّد من التركيز على الجهود التي بذلتها وستبذلها الحكومة الصينية لتأمين الرفاهية للمواطن الصيني. ولا بدّ أيضاً من الاطلاع على الادّعاءات الغربية التي تتهم الصين بارتكابها والوقوف على حقيقة تلك الادعاءات التي معظمها كاذب أو مضلل أو مشّوه للحقيقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*باحث وكاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى