مقالات وآراء

التطبيع… بوجوه متعدّدة

} د. هاني سليمان

1 ـ قال لي المحقق الصهيوني يوم اعتقالي على سفينة الأخّوة اللبنانية المتجهة لكسر الحصار عن غزة سنة 2009 برفقة المطران هيلاريون كبوجي ـ رحمة الله عليه ـ متى سيصبح لبنان شيعياً؟

قلت له: لن يصبح لبنان شيعياً، فهو بلد متنوّع الطوائف وعندما يصبح شيعياً يكون مشروعكم قد انتصر لكي تبرّروا عدم تقبّلكم للآخرين.

وطيلة أربع ساعات من التحقيق كان المحقق يردّد عبارات “أنتم تستنزفوننا، حزب الله وحماس يستنزفوننا بالمظاهرات في شوارع العالم وفي أوروبا خاصة. أنتم تستعملون سلاحاً قوياً ضدنا هو المظاهرات، لو ألّبتم الدنيا علينا لن تنتصروا”، وقال: حزب الله وحماس متطرفون إسلامياً. قلت له: تتحدثون عن التطرف وقد أفرغتم القدس من مسيحيّيها!

وجدت انّ هذه المقدمة مفيدة للإضاءة على واقعنا المهين الذي تفرضه علينا بعض الأنظمة المطبّعة مع الكيان الصهيوني، في الوقت الذي تنتشر فيه حركة مقاطعة وازنة في المجتمع الأوروبي لمنتجات الكيان الصهيوني بسبب سياسة التهويد التي يمارسها على سائر انحناء فلسطين، هذا إضافة الى مقاطعة ثقافية وعلمية وأكاديمية لممثلين للكيان لدى جامعات ومراكز أبحاث عديدة في أوروبا.

2 ـ الكيان الصهيوني أعجز من أن يفرض التطبيع على شعبنا وأمتنا، وما كان لهذا أن يُحدث بعض الاختراقات لولا أمتلاكه لعصا غليظة في الإدارة الأميركية تحركها فوق رؤوس الأنظمة “الصديقة” والمعادية لها على حدّ سواء.

حاصرت أميركا السودان وفرضت عليه عقوبات وقالت له إنّ حلّ مشكلتك يكمن في التفاهم مع “ إسرائيل”. وحاصرت لبنان وأفقرته وقالت له إنّ حلّ مشكلتك يكون بتوطين الفلسطينيين على أرضك.

وأسقطت العراق ومزقته شيعاً ومذاهب ومناطق بواسطة “قانون بريمر” بهدف إركاعه وإجباره للتوجه إلى تل أبيب.

ولكلّ بلد عربي مع أميركا قصة مماثلة. هادفة الى التطبيع مع الكيان الصهيوني. أما الأنظمة التي لم تخضع لإملاءات أميركا فكان عقابها التفجير من الداخل وهذه حال سورية.

هل ننسى يوم وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني أيهود أولمرت سنة 2006 بعد تقرير فينوغراد وقال في الكنيست “الإسرائيلي”: نعم لقد خسرنا الحرب مع لبنان لكن ردّنا سيكون بتفجير الأوضاع الداخلية في كلّ قطر عربي. وإلا ماذا تعني ظاهرة داعش في سورية والعراق ولبنان ومصر…؟

ما كان لهذه الاختراقات ان تحصل لولا حالة اللاحرب مع الكيان الصهيوني، حالة الاستكانة، والتنازلات المُهينة والمراهنة على سراب تسوية مع عدو يمتلك “المجتمع الدولي” ويسيطر عليه، والانحدار مع شعارات تنازلية من قَبيل “الأرض مقابل السلام”، الى الاستسلام مقابل السلام، وما أدراك ما هو الاستسلام.

3 ـ يتبادر الى الذهن السؤال التالي: هل أصبح التطبيع أمراً واقعاً؟

قبل الإجابة على هذا السؤال يجدر السؤال التالي وهو: مع من يحصل التطبيع الآن؟

أ ـ يحصل التطبيع مع أنظمة ما أولت قضية فلسطين أيّ اهتمام في برامجها وتوجهاتها.

ب ـ أنه يحصل مع دول لا تحتاج لهذا الكيان لا أمنياً ولا اقتصادياً، بل ان الهدف منه هو الخضوع للأسياد في الإدارة الأميركية، في حين أنّ شعوب ودول المركز والطوق والمواجهة لا زالت قابضة على الموقف المبدئي الثابت بالعداء لدولة الكيان الصهيوني.

الشعب المصري العظيم سدّ بوجه التطبيع.

وسورية بشعبها وقيادتها عصية على التطبيع.

وشعب الأردن العزيز مثل حيّ على مقاومة التطبيع.

ولبنان بمقاومته الباسلة ُيشعرك بالاعتزاز، وانتظار ما هو أكثر من مقاومة التطبيع إذا تجرأ العدو على شن حرب مباغته.

والبرلمان العراقي قال كلمته مؤخراً بتجريم التطبيع وتخوين كل من يلجأ اليه أو يمارسه سراً أو علانية.

بكلّ راحة بال نقول انّ هذه الأمة شجرة راسخة ومثمرة، تعطينا الثمر والفيء والهواء ومن يريد إحراقها فإنه سيحترق بلهيبها.

4 ـ لقد اعتمدت “غرفة العمليات” الصهيو ـ أميركية على وسائل قهرية وعلى ضغوط هائلة لإركاع هذه الأمة ودفعها الى الاستسلام مقدمة للتطبيع مع الكيان الصهيوني. فمن حصار اقتصادي الى ضغوط سياسية الى إغراءات كاذبة الى فتن وقلائل تمزق المجتمع العربي مذهبياً ومناطقياً، الى إفقار الدول والمجتمعات بهدف تسليمها لقمة سائغة الى البنوك الدولية، عناوين المؤامرة الكبرى التي يصرّح به قادة الدول الغربية. صبحاً ومساءً، وفي كلّ مكان وزمان، وخلال النوم وفي اليقظة، وسراً وعلانية.

لقد شكلّت حرب تموز الحدّ الفاصل بين مفهومين للحرب، ولجأت “إسرائيل” وأميركا الى حرب من نوع آخر هي الحرب الناعمة. فـ “إسرائيل” المطوّقة بالأسوار، المندحرة من لبنان سنة 2000، والمهزومة سنة 2006 تعمد اليوم الى الحرب الناعمة متوسّلة الإدارة الأميركية لتفرش أمام الأنظمة سجادة التطبيع بوسائل التخدير والتيئيس والإعلام المسموم والإغراق المالي لبعض المؤسسات والشخصيات والهيئات والنخب تحت شعارات السلام والازدهار وما درى المطبعون

انّ الافاعي وإنْ لانت ملامسها

عند التقلب في أنيابها العطب

هكذا يتصرفون مع بعض المؤسسات والاشخاص قائلين:

ـ ما رأيكم أن تقدّموا لنا بحثاً عن التربية في لبنان ولكم ميزانية مجزية.

ـ ما هو الواقع الاقتصادي أو الأمني في سورية؟ أعطونا خلاصة مفيدة ولكم ميزانية مجزية.

ـ إذا كنتم تعانون مشكلة مع أحد البنوك فالحلّ عندنا، لكن لا نريد ان تُذكر فلسطين في منتدياتكم.

ـ يا مركز الأبحاث الفلاني، رئيسك ممانع وما نفع الممانعة هذه الأيام، أليس من الأفضل لأعضاء هذا المركز أن يتبحبحوا في هذه الضائقة الاقتصادية. هذا كله يحصل مع بعض ما يُسمّى مؤسسات المجتمع المدني.

انه ينجح مع الأنظمة المرتبطة ومع النخب الساعية الى الارتباط.

في السابق شهدنا هجرة الأدمغة بشرائها وتصدير أصحابها، واليوم شراء الأدمغة وإبقائها قيد التداول الداخلي السلعي، كلّ حسب كفاءته وقدرته على بيع علمه وضميره وتالياً مستقبل وكرامة أمته.

ولا يفوتني القول انّ كلّ ذلك يجري في ظلّ العولمة ومقولة الانفتاح والحوار البناء والتشبّه بالآخر الناجح. في علم النفس متلازمة ستوكهولم تتحدث عن انقياد المهزوم طوعاً لقرارات المنتصر، ظناً من المهزوم ان عدوه قد انتصر.

إنّ جزءاً كبيراً من هذا الفصيل المدني ـ المعولم يعلم ما يعمل ولا ينتسب الى عشيرة البراءة بشيء، ونقول “لا تغفر لهم يا أبتاه انهم يدرون ما يفعلون”. انهم قادة جيوش الفكر المقتحم لمعتقدات مجتمعاتنا ومقدساتنا وانتمائنا القومي، وإلا كيف نفسّر أنّ مجموعة من المجتمع المدني في حراك 17/10/2019 في لبنان حيث خرجت الجموع الى الشوارع تهتف مطالبة برغيف الخبز. فإذا بهذه المجموعة تدعو الى ندوة وسط الحشود تتحدث عن مزايا السلام مع “إسرائيل” من أجل الخروج من الضائقة الاجتماعية.

وكيف نفسر ان مظاهرات جرت في ليبيا ضدّ حكم معمر القذافي يقودها اليهودي الصهيوني برنار هنري ليفي أو أنّ بعض “ثوار” سورية قد دعوا للصلح مع “إسرائيل”.

يجب الاعتراف انّ اختراقات ملحوظة قد حصلت في بعض المؤسسات والأحزاب والشخصيات القومية واليسارية والدينية يحب التنبه والتصدي لها.

يحاول العدو التسلل في بعض المناهج الدراسية أو بعض الخرائط.

أمتنا عصيّة على التطبيع وعصيّة على كلّ التركيع.

لتشكيل هيئة خاصة شبه مستقلة في المؤتمر اسمها هيئة مقاومة التطبيع. تضمّ على الأقلّ شخص من كلّ قطر على ان يكون منسقها الأستاذ خلف المفتاح هذا عائد للأمانة العامة المقبلة. على ان تدرس تفاصيل أنشطتها لاحقاً.

رفض المشاركة في المباريات مع الكيان الصهيون.

انني أتبنى كلّ ما ورد في الورقة القيّمة للزميل خلف المفتاح وخاصة لجهة الاقتراحات والتوصيات وخاصة ما هو ملقى على عاتق المؤتمر القومي العربي، وأدعو الى إقرار ما يمكن إقراره ووضعه موضع التنفيذ على مستوى الوطن العربي بكل مؤسساته الرسمية والشعبية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى