أخيرة

نافذة ضوء

ارتقاء العقلية والنفسية منار التقدم
وكل عقيدة لا تُجاري متطلبات العقل تسقط

‭}‬ يوسف المسمار*
نحن مدرحيون في نظرتنا للواقع، والمدرحية هي نتاج العقل المنفتح على كل أمور الحياة، وقد نعته المعلم سعاده بأنه «الشرع الأعلى». وهذا يعني أننا عقليون عقلانيون عاقلون سوريون قوميون اجتماعيون.
والمجتمع الذي يعتمد على العقل كشرع أعلى هو بالطبيعة والبديهة مجتمع معرفة، والمعرفة وحّدت بين المادة والروح في الإنسان، فلا وجود لإنسان مادة بدون روح، ولا وجود لإنسان روح من غير مادة. وكل من المادة الانسانية والروح الانسانية لا وجود لأي منهما منفصلة عن الأخرى بل هما في الإنسان وفي وجود الانسان لا في عدمه. والانسان في المعنى الحقيقي مظهر من مظاهر الحياة، وحيث تنعدم الحياة ينعدم الانسان ويستحيل بالتالي وجوده المادي والروحي معاً.
وبناء على ما تقدم، فقد أعلنت الفلسفة المادية – الروحية أو (المدرحية) انها فلسفة الحياة المادية الروحية المنبثقة من الحياة النامية المتطورة التي هي أساس الارتقاء الانساني المادي – الروحي «المدرحي». ونظّمت العلاقة بين الدين والعلم باعتبار ان الدين نوع من الفلسفة. وهذه هي فلسفة التفاعل الموحّد للقوى الانسانية من اجل بناء الحياة والنهوض بالحياة الى أرفع مستوى.
وقد قال أنطون سعاده:
«في نظرنا إلى الدين من حيث ناحيته الروحية لا السياسية نحن نقول إن الدين للحياة ولتشريف الحياة وليست الحياة للدين ولتشريف الدين».
ويمكن اضافة ايضاً أن العلم هو لترقية حياة المجتمع الانساني والرقي بالحياة الانسانية، وليست الحياة الانسانية لتشريف العلم والرقي بالعلم من اجل العلم. فكل دين وكل علم وكل فكر لا تكون الغاية منه تقدم وارتقاء حياة الانسان المجتمع لا جدوى منه ولا نفع.
وهذا هو اتجاه الفلسفة القومية الاجتماعية التي تعتبر ان الدين والعلم كلاهما لتشريف الحياة والرقي بالحياة.
وما دام الدين والعلم وسيلتين من وسائل تجويد حياة المجتمع الإنساني، فأي عاقل يرفض ان يتعاون الدينيون والعلميون على تحقيق خير المجتمع؟
فالعلم الذي يناقض العقل هو كالدين الذي يناقض العقل. والدين الذي يحترم العقل هو كالعلم الذي يحترم العقل. وعندما يناقض العلم والدين العقل يتساويان في الهبوط، فيهبط الدين الى درك الطائفية والتعصب الأعمى وتكفير الآخرين، ويهبط العلم إلى سراديب الأنانية والجنون والخيانة.
فإذا خلا العلم أو الدين من حكمة العقل تصنّم الدين وتحجّر العلم، وبناء على ذلك قال أنطون سعاده:
«فكل دين يخلو من حكمة يقبلها العقل لا يثبت وقتاً كافياً ليدخل التاريخ. فالعاطفة هي جزء واحد وحالة واحدة من أجزاء وحالات النفس الإنسانية، وكل دين او إيمان علوي أو دنيوي، سواء ابتدأ بالعاطفة أو بالعقل، لا يمكنه أن يقوم بالعاطفة وحدها، ولولا الكتب والمؤلفات العقلية التي لا يحصى عددها في كل دين لما ثبت الدين الروحاني على الأيام وغزوات العقل. ومقدار ما يطلب من الشؤون العقلية في كل دين يكون على نسبة درجة ارتقاء أهله الثقافي ولذلك نرى كل دين يضطر الى مجاراة الارتقاء العقلي ليثبت فتكثر التفاسير ويتسع باب الاجتهاد لجعل الدين ينطبق على المتطلبات العقلية وضرورات الارتقاء النفساني… وإذا كانت «العاطفة» وحدها تكفي لنشوء الدين فلماذا علّم المسيح تعاليم تطلب تضحيات «عاطفية» ولماذ أقام محمد الشرع واهتمّ بالحقوق والعقود؟».
وقد أوضح واضع الفلسفة المادية – الروحية أنطون سعاده موقفه من الدين بشكل صريح حين قال:
«طريق القومية الاجتماعية الذي يشقه الحزب السوري القومي الاجتماعي لا يقود حتماً الى الانحلال الديني ولا الى التفكير في مثل هذا الأمر، ولكنه يقود حتماً الى انحلال التعصب الديني وقيام التعصب القومي الاجتماعي مقامه».
وكلمة التعصب هنا سواء كان التعصب للدين او للقومية تعني العصبية، والعصبية تعني الروحية، وروحية خير المجتمع العام هي أكمل من روحية خير خاص لفئة من فئات المجتمع.
ومن المفيد جداً ان نتدبّر ما قاله انطون سعاده في رسالته الى الأمين السابق الدكتور فخري معلوف في 4 آذار 1945، حيث قال عن العقيدة السورية القومية الاجتماعية والعقائد الدينية:
«تعلم، يا عزيزي، أنه ليس في عقيدتنا القومية الاجتماعية ما يحرّم العقائد الدينية أو يحتجز حرية الفكر في أي أمر من الأمور الروحية والقضايا الفكرية بشرط أن لا تطلب الهيمنة على عقيدتنا القومية الاجتماعية أو إفسادها أو تعطيل غايتها الأخيرة، وقد كنت حريصاً جداً على عدم مزج إيماننا القومي بقضايا الإيمان الفردي اللاقومي الذي له صفة مجاوزة حدّ العقيدة القومية ولذلك فصلت بين كتاب عقيدتنا الذي هو المبادئ وشرحها وكتاب «نشوء الأمم» وكل كتاب آخر يشمل مسائل تخرج عن حدود عقيدتنا القومية الواضحة، فالسوري القومي الاجتماعي يُمتحن سلوكه وعمله ويحاسب وفاقاً لمبادئنا ولا يُمتحن ولا يحاسب بموجب كتاب نشوء الأمم، وإذا كنت أنت قد اقتنعت بخصائص المذهب الكاثوليكي ووجدت في ذلك استقراراً نفسياً من حيث المسائل الروحية التي تصل إلى آماد لا ترمي إليها المبادئ القومية، فذلك لا يجد عندي غير السرور لارتياحك.. وإذا عدت وتمعنت في دفاعي في المحكمة المختلطة وجدت لي تصريحاً هاماً، فقد قلت في عرض دفاعي المذكور أني لا أرغب في محو التنوع الفكري من تراثنا بل أرغب في المحافظة عليه وتنميته لأني أرى أنه لازم لفلاحنا وشرح مبادئنا واضح لا التباس فيه.. ومبادئنا وشرحها هي المرجع الوحيد لتفكيرنا المجموعي وكل أقوال الزعيم وكتاباته التي يمكن عدها شروحاً إضافية هي تلك التي تختص بما اختصت به المبادئ القومية الاجتماعية وشروحها فلا يدخل في ذلك أي أمر يتناول الاعتقاد بما وراء المادة والنفس الإنسانية وخلودها ووجود الخالق أو عدمه…».
ويضيف سعادة في نص الرسالة:
«فكتاب نشوء الأمم يمكن اعتماده في مسائل تطور الجماعات الإنسانية نحو كيان الأمة ونشوء القومية بما أورد من الحقائق العلمية والتحليلات والتعليلات المفيدة ولا حاجة لاعتماده في أية قضية عقائدية دينية تتعلق بالنفس الإنسانية مطلقاً وما قبل الحياة وما بعدها..
قد تكون أنت أكثر الأعوان والرفقاء اطلاعاً على آرائي وأفكاري في المسائل الدينية..».
إن عقل الانسان متطور ودائم بتطور الانسان – المجتمع ودوامه، والمعارف الدينية والعلمية خاضعة لدرجة رقي الإنسان – المجتمع الثقافي أو تخلفه، والعقل الراقي هو الذي ينهض بالدين وينهض بالعلم فيكون بنهوض العلم والدين تجويد الحياة وترقية الحياة وتشريف الحياة.
وليست قوميتنا الاجتماعية إلا من أجل حياة أجود وأرقى وأشرف، وترسيخ عقلية أخلاقية جيّدة وراقية وشريفة. نحن عقليون وعقلانيون وعاقلون قبل أن نكون دينيين وعلمانيين وعلميين، وكل حركة دينية او علمية أو علمانية لا تجاري المتطلبات العقلية والارتقاء النفساني لا تنجو من التخلف، ولا قيمة ولا جدوى من أيّ دين او علمانية او علم يخلو من العقل الذي هو هبة الخالق العظمى التي بدونها يستحيل أن يكون الانسان انساناً.

*باحث وشاعر قومي مقيم في البرازيل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى