أولى

مدلول عملية مجدو: نجاح المقاومة بالارتقاء من وحدة الساحات إلى وحدة الجبهات

د. عصام نعمان*
تكشّفت عملية مجدو النوعية عن ثلاث حقائق ساطعة:
أولى الحقائق أنها عملية غير مسبوقة في تاريخ صراع المقاومة الفلسطينية مع العدو الصهيوني. ذلك أنها وقعت في عمق الأراضي المحتلة، على مقربة من حيفا، إحدى كبريات مدن التحشّد السكاني المعادي.
سبق للمقاومة أن قامت بعمليات مشابهة عبر الحدود اللبنانية، لكن مسافة اختراقها لم تتعدَّ الكيلومترات العشرة شمال مدينة نهاريا، ولم تتسبّب في حينه بقلق للقيادات العسكرية الإسرائيلية.
ثانيةُ الحقائق أنها أربكت قيادات العدو وحملتها على إفراز تفسيرات وتبريرات متناقضة بشأن كيفية حصولها والأهداف المتوخاة منها. من التفسيرات المتداولة في هذا السياق الزعم بأنّ مقاتلاً انطلق من أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان، واجتاز الحدود متوجهاً الى مجدو الواقعة على بُعد بضعة كيلومترات من حيفا. وفي تفسير آخر قيل إنّ المقاتل انطلق من أحد المخيمات في شمال الضفة الغربية، كما لم تستبعد إحدى وسائل التواصل الإسرائيلية أن يكون المقاتل من فلسطينيّي الأراضي المحتلة العام 1948.
ثالثةُ الحقائق أنّ عملية مجدو تكشّفت عن توفّر أسلحة ومعدّات غير تقليدية لدى فصائل المقاومة في الأراضي المحتلة ما يشي بأنها تلقتها، على الأرجح، من خارج كيان العدو، ربما من لبنان أو سورية.
بيانُ وزارة الأمن الإسرائيلية لمّح الى ما أسماه إمكانية «تورّط» حزب الله في العملية، لكنه أشار الى أنّ تحقيقاً يجري في هذا الشأن. غير أنّ ناطقاً باسم قوات الأمم المتحدة «يونيفيل» المنتشرة على طول حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة أكّد انها «لم تلاحظ أيّ حركة تسلل عند الخط الأزرق خلال الأيام الماضية».
كلّ هذه الواقعات تطرح جملة أسئلة:
ــ كيف تمكّن المقاتل من اختراق السياج والجدار «الإسرائيليين» القائمين على الحدود والمفترض أنهما محروسان بيقظة شديدة من الجانب «الإسرائيلي»؟
ــ كيف تمكّن المقاتل من قطع مسافة لا تقلّ عن 60 كيلومتراً بين الحدود وموقع مجدو من دون أن تتمكن قوى الأمن الإسرائيلية من ضبطه؟
ــ لماذا لم تكشف السلطات الإسرائيلية عن «جثة» المقاتل الذي تزعم أنها قتلته فور حصول ذلك؟
كلُ هذه التساؤلات والشكوك تؤشر الى حقيقة دامغة هي وجود ثغرات وفجوات في جدار الأمن الحدودي الإسرائيلي ازدادت اتساعاً مع تفاقم الاضطرابات الأمنية وتصدّع البنية الداخلية نتيجةَ تظاهرات جمهور كبير معارض وناشط ضدّ إجراءات ما يُسمّونه «الانقلاب القضائي» الذي أعدّته حكومة نتنياهو اليمينية العنصرية ضدّ القضاء بغية السيطرة عليه.
الى ذلك، ثمة بُعدٌ أشدّ أهمية وخطورة للمشهد السياسي والأمني «الإسرائيلي» في الوقت الحاضر لكونه ينطوي على مدلول لافت هو تمكّن بعض فصائل المقاومة في لبنان (حزب الله) وفي فلسطين («حماس» و»الجهاد الإسلامي») من امتلاك القدرة محلياً على تصنيع صواريخ ومُسيّرات وقنابل ومعدّات عسكرية. ذلك تجلّى في قيام المقاومة («الجهاد» و»حماس») بقصف تل أبيب وضواحي القدس بالصواريخ خلال عملية «سيف القدس» العام 2022، وفي إطلاق فصائل المقاومة مسيّرات خلال محاولات الجيش «الإسرائيلي» اقتحام مخيم جنين مؤخراً.
هكذا يتضح أنّ فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين تمكّنت، بالتعاون مع أطراف محور المقاومة في سورية وإيران، من تفعيل الارتقاء بالدعوة الى وحدة الساحات الى مستوى وحدة الجبهات. صحيح أنّ الجبهتين اللبنانية والسورية لم تشاركا ميدانياً في معركة «سيف القدس» وما تلاها من مواجهات واسعة بين المقاومة والقوات «الإسرائيلية» في الضفة الغربية، إلاّ أنّ إنجاز وحدة الجبهات كان قد تحقق، عملياً وتدريجياً، منذ العام 2022 من خلال اتساع عمليات دعم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين بالسلاح والعتاد والذخيرة والخبرة الفنية والتسهيلات اللوجستية والمعطيات الاستخبارية وذلك بشتى الوسائل والسبل، براً وبحراً وسيبرانياً، ما مكّنها من تفعيل الارتقاء بعملياتها القتالية. أليس نجاح مقاتل مقاوم في التحرك في عمق الأراضي المحتلة الى محيط مدينة حيفا من دون أن تتمكّن الأجهزة الأمنية والعسكرية «الإسرائيلية» من ضبطه، ثم إخفاقها بعد ذلك في تحديد هوية الجهة التي ينتمي اليها، ونقطة انطلاقه، والهدف المتوخى للعملية المكلّف القيام بها، وهذا الطوفان من التفسيرات والتبريرات المتناقضة لمؤسسات ومصادر عسكرية وأمنية وإعلامية شتى بقصد تغطيةِ فشلٍ مدوٍّ للأجهزة الأمنية المسؤولة… أليست هذه الواقعات والشواهد أدلة ساطعة على المستوى المتطور للفعالية القتالية والعملانية لفصائل المقاومة من جهة، ومن جهة أخرى للنجاح الذي حققته كافة أطراف محور المقاومة في الارتقاء بها من دعوةٍ الى توحيد الساحات الى نجاحٍ في تحقيق وحدة الجبهات، لوجستياً وسبرانياً، واحتمال تطورها الى مشاركة ميدانية في قابل الأيام؟
لعلّ الأدلة الأوضح على هذا الارتقاء في فعالية المقاومة ما أوردته مصادر «إسرائيلية» وازنة في هذا المجال:
ــ اساف أوريون، الباحث الكبير في «معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب والرئيس السابق لوحدة التخطيط الاستراتيجي في الجيش «الإسرائيلي» يقول، بحسب «مباط عال» ( العدد 1696، 2023/3/13) «إنّ حساب الدم يرتفع (…) والتقديرات تزداد بأنّ الساحة الفلسطينية على أعتاب انفجار واسع عشية شهر رمضان والأعياد اليهودية قد تتوسّع حلقته الى داخل «إسرائيل»، كما جرى أثناء عملية حارس الأسوار».
ــ عاموس يادلين، رئيس إدارة الاستخبارات العسكرية السابق يقول «إنّ التحدي الأكبر لـ»إسرائيل» هو أنها تواجه معضلة استراتيجية وعملانية من الدرجة الأولى تتمحور حول كيفية الجمع بين استعادة الردع من دون الانجرار الى تصعيد لا يريده أيّ من الأطراف (…) والأكثر خطورة أن لا تنجح في تعزيز صورة ردعها لمنع تكرار عمليات مشابهة بعدما ثبت أنّ الجهة التي تقف وراء العملية تتمتع بحصانة استخبارية سمحت لها بمفاجأة أجهزة العدو (إسرائيل) في طبيعة العملية ومسارها ومكانها وأسلوبها وتوقيتها».
ــ يواف ليمور، المعلّق السياسي في صحيفة «يديعوت احرونوت» قال «إنّ العملية تستبطن أبعاداً عميقة وإمكانية متفجرة على أمن «إسرائيل»(…) ما دفع المؤسسة الأمنية والعسكرية في الأيام الأخيرة الى مداولات محمومة أدّت الى تقصير زيارة رئيس الحكومة نتنياهو لبرلين».
تتوالى هذه الشهادات والتقديرات من جهات «إسرائيلية» مسؤولة ووازنة في وقت تترقّب قيادات دول كبرى عالمية، وقيادات أخرى في دول كبرى إقليمية تداعيات المصالحة بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية وما إذا كانت تنطوي، عاجلاً او آجلاً، على إعادة صياغةٍ لمنطقة غرب آسيا لتكون، غالباً، على حساب نفوذ الولايات المتحدة وحليفتها «إسرائيل».

*وزير ونائب لبناني سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى