أولى

القرار الإنقاذي بالتوقف عن دفع «اليوروبوندز»…

‭}‬ أحمد بهجة*
في كلّ مرة نجتمع بالرئيس البروفيسور حسان دياب يتأكد لنا من جديد أنّ لبنان خسر فرصة إنقاذية كبيرة جداً، قد لا تُعوّض، حين لم يتمّ دعم حكومته في خطواتها وقراراتها الإنقاذية التي لا تزال إلى اليوم هي المرجع لأيّ عمل إصلاحي في هذا البلد المُبتلي بالفساد المنظم والنهب المُشرعن…!
ورغم أنّ الذين عرقلوا مسار حكومة الرئيس دياب يستنسخون اليوم ما وضعه من دراسات وخطط للتعافي والنهوض، نرى أنّ محاولات التجنّي لا تزال مستمرة، لأنّ الرأي العام يؤخذ في غالب الأحيان بما يُسمّى «بروباغندا» إعلامية تروّج للفكرة نفسها آلاف المرات حتى ترسخ في الأذهان على أنها هي الحقيقة، وذلك من خلال استخدام طرق وأساليب مختلفة يكون هدفها تزوير الوقائع والحقائق، لجعل المرتكب بريئاً والمنقذ مخرّباً…
قد تنجح هذه الأمور أحياناً في جرّ الرأي العام إلى إصدار أحكام ظالمة، خاصة أنّ غالبية اللبنانيين يتأثرون في الأغلب الأعمّ بما يسمعونه من السياسيّين والمسؤولين الذين اعتادوا على تأييدهم، وهؤلاء لديهم وسائل إعلام قوية وقادرة ومؤثرة بطبيعة الحال…
لكن هناك قولاً كان يردّده دائماً ضمير لبنان الرئيس الدكتور سليم الحص وتجدر العودة إليه دائماً مفاده «أنّ المرء يمكن أن يخدع كلّ الناس بعض الوقت، وبعض الناس كلّ الوقت، لكن لن يستطيع خداع كلّ الناس كلّ الوقت»، لأنّ الحقيقة مهما حاول البعض التعمية عليها سوف تظهر في النهاية وسيُدرك الناس أنهم كانوا مخدوعين من الجهة أو الجهات التي كانت موضع ثقتهم.
هنا… ولكي تكون الحقيقة كاملة أمام الجميع، لا بدّ من العودة إلى الوقائع التي حصلت آنذاك وأدّت إلى إعلان قرار التوقف عن دفع سندات «اليروبوندز» في 7 آذار 2020، والذي لم يكن قراراً عشوائياً إنما أتى بعد البحث في كلّ الخيارات وبعد اجتماعات عديدة ومتتالية لأكثر من شهر في السرايا الحكومية، شاركت فيها نائبة رئيس الحكومة زينة عكر وكلّ المعنيين بالأمور المالية والمصرفية، بدءاً بوزيري المال والاقتصاد غازي وزنة وراوول نعمة وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة وبحضور رئيس جمعية المصارف سليم صفير وممثلين عن المصارف والشركات التي تملك سندات «يوروبوندز»…
ومن بداية الاجتماعات التي تكثفت بعد منتصف شهر شباط 2020، كان الرئيس دياب صريحاً جداً ومباشراً وطرح رؤيته الواضحة أمام الجميع، واضعاً أمامهم ثلاثة احتمالات…
ـ الاحتمال الأول هو أن نسدّد الاستحقاقات في وقتها، وهذا أمر لا يجب أن نقدِم عليه، خاصة أنّ ما هو أمامنا ليس فقط استحقاق 9 آذار 2020 بقيمة 1.2 مليار دولار، بل هناك استحقاقات أخرى في العام 2020 نفسه يصل مجموعها إلى 4.7 مليارات دولار، وإذا أضفنا استحقاقات العام 2021 يصبح المجموع 9.2 مليارات دولار، ومع استحقاقات العام 2022 يصبح المجموع 12 مليار دولار. ثم تأتي استحقاقات أخرى في الأعوام اللاحقة يجب أن نضعها في الحسبان وندرس مدى قدرتنا على الاستمرار في السداد في ظلّ الظروف التي وصلت إليها المالية العامة والمعروفة منا جميعاً، خاصة أنّه تمّ تسديد سندات بأكثر من ملياري دولار في تشرين الثاني 2019، قبل أن تتسلم حكومة الرئيس دياب مهامها، ولم يأتِ ذلك بأيّ نتيجة بل ذهب المبلغ سدى وخسرته الخزينة العامة كما خسرت قبله الكثير.
إذن… السندات التي كان متوجّباً تسديدها لو لم يُتخذ قرار التوقف عن الدفع تبلغ قيمتها أكثر مما بقيَ من احتياطي بالعملات الأجنبية في المصرف المركزي. ولولا حكمة الرئيس دياب لكنا اليوم مفلسين فعلاً وليس في خزينتنا العامة أيّ شيء، وليس كما يدّعي المرتكبون في حملاتهم الإعلامية الفاشلة التي يريدون من خلالها أن يقنعوا الرأي العام بأنّ قرار التوقف عن الدفع هو سبب إفلاس البلد، وليس سياساتهم الخاطئة وأفعالهم المشينة وسرقاتهم المكشوفة طوال ثلاثين سنة وتحويلاتهم المشبوهة التي هرّبوا من خلالها مليارات الدولارات إلى الخارج وتركوا باقي المودعين على قارعة الطريق ينتظرون الفرج الذي لا يأتي…
ـ الاحتمال الثاني هو اتخاذ قرار بالتوقف عن الدفع، وهذا ما لا نريده جميعاً.
ـ الاحتمال الثالث هو أن نجري إعادة جدولة للسندات وتأجيل دفعاتها لعدة سنوات إلى الأمام قد تصل إلى عشرين سنة وربما أكثر كما فعلت دول عديدة تعثرت قبلنا مثل قبرص واليونان وغيرهما.
وهذا ما وافق عليه الحاضرون بالإجماع لأنه الخيار الأفضل والوحيد الذي يُبقي لبنان نوعاً ما واقفاً على قدميه مالياً… وعندها طلب الرئيس دياب من مالكي السندات عدم بيْعها لأنّ هؤلاء المالكين مع مصرف لبنان لديهم أكثر من 75% من السندات، وهذا يُخوّلهم اتخاذ قرار إعادة جدولة الدفعات، ولكن المفاجأة كانت في بداية شهر آذار 2020 أنّ عدداً من مالكي السندات قاموا ببيعها في الأسواق المالية، ولم تعُد لدينا نسبة الـ 75 في المئة التي تسمح بإعادة الجدولة.
استدعى الرئيس دياب هؤلاء إلى اجتماع عاجل، وسألهم لماذا لم تلتزموا بما وعدتم به في الاجتماعات السابقة، وأنتم بفعلتكم هذه كنتم كمَن يطلق النار على قدميه، فأعطوا تبريرات واهية أكدت أنهم يريدون الضغط على الحكومة وخاصة على رئيسها لكي يتمّ تسديد السندات في وقتها، لأنهم هم الذين سيقبضون قيمة تلك السندات وفوائدها المرتفعة، ومعهم مصرف لبنان وعدد من السياسيين والمصرفيين المعروفين.
لكن الرئيس دياب فاجأ الجميع بأنهم هذه المرة سيكونون من الخاسرين، ولن يستطيعوا وضعه في الزاوية وجعله يتخذ القرار الذي يريدونه، وقال لهم عليكم أن تسارعوا خلال الأيام المتبقية قبل الاستحقاق في 9 آذار لاستعادة السندات ثم تنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه من إعادة جدولة، وإلا فإنّ القرار سيكون بالتوقف عن الدفع وستكونون أنتم المسؤولون عن النتيجة التي سنصل إليها، وهي نتيجة بمثابة جريمة ترتكبونها بحقّ مجموع اللبنانيين.
أمام هذا الواقع اتفق الرئيس دياب مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على عقد اجتماع موسع في قصر بعبدا في 7 آذار، وهذا ما حصل بالفعل وعُقد الاجتماع بحضور الرؤساء الثلاثة ونائبة رئيس الحكومة ووزيري المال والاقتصاد وحاكم مصرف لبنان ورئيس جميعة المصارف وعدد من أصحاب المصارف، واتخذ المجتمعون بالإجماع قرار التوقف عن الدفع، ووافق عليه مجلس الوزراء الذي عقد جلسته أيضاً في بعبدا بعد الاجتماع الرئاسي ـ الوزاري ـ المصرفي بنصف ساعة فقط، حيث خرج الرئيس دياب ليعلن القرار في خطاب موسّع ضمّنه رؤية شاملة لما يجب أن يتبع هذا القرار من خطوات، وهو ما تمّت ترجمته لاحقاً بإقرار خطة التعافي المالي والاقتصادي، وهي الخطة الوحيدة التي وافق عليها صندوق النقد الدولي، والتي أنجزتها الحكومة في غضون ستة أسابيع بينما يحتاج إنجاز هذا الأمر في دول أخرى إلى أشهر عديدة. هذا من دون أن ننسى المصائب التي خلفتها السياسات الخاطئة منذ ثلاثين سنة، خاصة بعد البدء في العام 1998 بإصدار سندات خزينة بالعملات الأجنبية!
ثم أقرّت الحكومة ثلاث خطط تفصيلية مواكِبة لخطة التعافي تُعنى بالنهوض بقطاعات الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة والسياحة) على أن يُعتمد بشكل أساسي على التكنولوجيا المتطوّرة والذكاء الاصطناعي لأنّ ذلك من شأنه أن يُحسّن الإنتاج كمّاً ونوعاً ويعطيه قيمة مضافة أكثر، وهذا بالضبط ما يحتاجه الاقتصاد اللبناني لكي يستعيد عافيته وقدرته على ترقية حياة المواطنين إلى مصاف الدول المتقدمة…
*خبير اقتصادي ومالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى