أولى

ما كتب قد كتب…

‭}‬ بشارة مرهج*
صحيح أنّ يهود المستعمرات المحاذية لغزة تعرّضوا لأيام قاسية بسبب ضربات فلسطينية مباغتة رداً على الاقتحامات الهمجية التي يتعرّض لها الأقصى المبارك، لكن الفلسطينيين تعرّضوا لسنين طويلة من الوجع والعذاب بسبب القمع والظلم الإسرائيلي المستمر منذ عام 1948، لا بل منذ عام 1918 عندما تولّت بريطانيا احتضان الوكالة اليهودية تسليحاً وتدريباً وعملت على اضطهاد الفلسطينيين وحرمانهم من استخدام السكاكين في مطابخهم. لذلك نقول لمن راعه مقتل مدنيين في الجانب “الإسرائيلي” أين هي إدانته لممارسات القوات والميليشيات الإسرائيلية التي اعتبرت وتعتبر قتل الفلسطينيين وتشريدهم عملاً يومياً ينبغي الإصرار عليه حتى تقوم الدولة اليهودية الخالصة، أيّ الخالية من أيّ مجموعة بشرية أخرى لا تنتمي الى الدين اليهودي؟
ونضيف أين كان مدّعو الحرص على المدنيين والأطفال عندما كانت عائلات فلسطينية بأكملها تذبح عمداً أو تطرد خارج بيوتها الى العراء؟ هل انتفضوا تعاطفاً مع آلامهم ومعاناتهم وأدانوا الفاعل؟ فهذه الحرب التي نشهدها اليوم لم تنشأ فجأة، وإنْ تفاجأ بها عدوّ متغطرس يستهتر بكلّ من حوله، لكنها ردّ فعل طبيعي من شعب يرزح تحت حصار وقهر يتصاعدان كلّ يوم ويقوم بهما عدو متطرف خارج على القانون الدولي والإنساني دون أن يرى هيئة دولية واحدة تردعه أو تسعى لرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني وأطفاله ومقدساته التي تنتهك وتدنس كلّ يوم تحت هذه الحجة الباهتة أو تلك؟
لذلك تخطئ اليوم واشنطن ومعها دول أوروبية عدة في تقييمها للموقف في غزة. تخطئ في انحيازها للجلاد. تخطئ لأنها لا تقيس الأمور بالمقياس نفسه وإنما تقيسها بمنطقها الاستعماري الذي لا تستطيع التخلي عنه، إذ ترى الضحية مستحقة للإدانة لأنها أفصحت عن أوجاعها، وترى الجلاد ضحية لأنه تعرّض لهزيمة لا يجوز أن يحظى بها نظام الاحتلال والأبارتيد.
ولكن مهما فعلت “إسرائيل” وقتلت ودمّرت بسلاحها الجوي والأميركي، ومهما أيّدها ودعمها أفرقاء فهي لن تتمكّن من ستر العار الذي لحق بها يوم أخفقت بكلّ مؤسساتها الاستخبارية والعسكرية والسياسية عن معرفة ما يجري في غزة و “غلافها” إلا بعد انكشاف ردّ الفعل الفلسطيني على العالم بأسره. وردّ الفعل هذا ليس على عدوان إسرائيلي عارض بل على عدوان مستمر وحصار عنصري متواصل منذ 15 سنة، حصار تناول كل مناحي الحياة.
لكلّ ذلك ليس من حقّ الكيان الصهيوني أن يتفاجأ، وليس من حق الرئيس الأميركي بايدن أن يتباكى وقد قدّمت بلاده لهذا الكيان المؤقت كلّ ما طلبه وتمناه من أموال وأسلحة ودعم سياسي وعدد لا يُحصى من الفيتوات التي نجحت في عرقلة مسيرة العدالة الدولية وإدامة القهر والقمع والإرهاب على الشعب الفلسطيني. أما تنديده بأهل غزة وحماس فهو آخر مَن يحقّ له تقييم الآخرين باعتباره ملاحقاً مع ابنه هانتر من القضاء الأميركي بشتى التهم.. أما الدموع التي حاول أن يذرفها وهو يخاطب العالم مهدّداً بالقوة الأميركية الساحقة فلم تقنع كثيرين وهو الممتنع عن إدانة المجازر التي ارتكبتها الجيوش الأميركية في هيروشيما وناكازاكي وفيتنام والعراق وأفغانستان وباناما ومختلف البلدان، وهو الممتنع أيضاً عن إدانة “إسرائيل” التي ارتكبت بعصاباتها وجيشها مجازر مماثلة.
إنّ الشعب الفلسطيني وأهالي غزة، بصورة خاصة، يتحملان منذ 75 عاماً وبدون انقطاع ظلماً لا يطاق من قبل الحكومات الصهيونية وميليشياتها الحاقدة التي تقطع عنه المياه والكهرباء والهواء كلما عنّ على بالها تجربة جهوزيتها للقتل والسحل والتهجير، وهي الحكومات نفسها التي هدمت بيروت واغتصبت بيوت الفلسطينيين ومدارسهم ومتاجرهم ومزارعهم وكتمت أصواتهم وزجتهم في سجون عفنة يديرها جلاوزة متعصبون كوزير الدفاع يوآف غالانت الذي جاهر بأنه “يقاتل حيوانات بشرية” في غزة أو وزير المال سموتريتش الذي ادّعى أن لا وجود للشعب الفلسطيني في معرض دعوته محو بلدة الحوارة جارة أريحا.
فكيف أمكن للرئيس الأميركي وسط ذلك كله ادعاء العفة والسمو مع أقرانه الأوروبيين وإلقاء هذا الكمّ الهائل من التهم الظالمة على الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض للإبادة أو التهجير كلّ يوم سواء كان في بيته أو مزرعته أو على الطريق يحاول الوصول الى مدرسته المتوارية خلف الأسوار والجدران العنصرية المبنية بأموال أميركية وأوروبية هي عار عليهم وعلى كل من يدّعي الثقافة والحضارة.
لا حاجة للإفاضة؛ فالحقائق معروفة وإنْ جوبهت بالإنكار، والحديث يطول عن الممارسات العنصرية الإرهابية التي اعتمدتها “إسرائيل” سياسة ثابتة ضدّ فلسطين وأهالي المنطقة بأسرها – هل تتذكّرون كيف تعاملت “إسرائيل” مع جنود مصر في سيناء عام 1967- وكيف تتعامل اليوم مع أهالي القدس والمسجد الأقصى؟!
فنحن نكتفي بذلك، لأنّ الموقف الأميركي والبريطاني الذي أنكر على الشعب الفلسطيني حقوقه وأصطفّ الى جانب “إسرائيل” في كل مجزرة ارتكبتها من مجزرة كفر قاسم الى مجزرة صبرا وشاتيلا، هو موقف غير قابل للتغيير ويبرهن أن لا فرق بينهما وبين “إسرائيل” التي خرجت من رحمهما وتأسّست على أيديهما وتسلحت من سلاحهما وسطت على أرزاق الآخرين بتحريض وحماية منهما.
نحن لا نعوّل على ردّ فعل “إنساني” يفاجئنا به الحاكم الأميركي أو البريطاني، لكن لنا كلّ الثقة بشعوب العالم الرافضة للاحتلال والإذلال والاستغلال المصمّمة في كلّ حين، على انتزاع حريتها واستقلالها وكرامتها مهما طال الزمن، ومهما كانت التضحيات.
*نائب ووزير سابق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى