أولى

النزول عن الشجرة بعين مفقوءة

‬ بقلم د. حسن أحمد حسن*

الإفراط في استخدام القوة التدميرية الهائلة يولّد لدى مالكها نوازع إضافية لرفع سقوف الوحشية والقتل والتدمير، ويحرّض هوس الفتك وتسوية المدن بالأرض وتعطيل سبل الحياة بكل مظاهرها الطبيعية إرضاء لنزوة القتل والتلذذ بسفك دماء الأبرياء، وهذا بدوره يدفع نزعة الشر والإجرام للانتقال من ذروة إلى أخرى غير مسبوقة، إلى أن تصبح الهوة بين أوهام الخيال المرضي المزمن ببلوغ نصر مأمول وبين الواقع القائم غير قابلة للجسر، ولعل هذه الحالة أقرب ما تكون إلى الوضع الذي يحكم أداء حكومة نتنياهو وكل من يدعمها سراً وعلانية، فخوض الحروب الفعلية ضد أبناء الأرض يختلف عما يمكن تصميمه بالذكاء الاصطناعي كثيراً، والاعتماد على التقانة مهما بلغت دقتها لا يمكن أن تغني عن العنصر البشري الحقيقي المؤمن بقضيته والمستعد للتضحية في سبيلها بخوض الأعمال القتالية بتكتيكاتها المختلفة، وبقدر ما تكون الصحوة سريعة ومفاجئة من سراب الأحلام غير القابلة للتحقيق بقدر ما تصبح المعضلة أكثر تعقيداً، وهذا يفسّر مكابرة أصحاب الرؤوس الحامية في تل أبيب وواشنطن على إطالة أمد التوحش في الحرب ضدّ غزة رمز الصمود والإباء والعزة والكرامة، وعلى الرغم من انقضاء أكثر من ثلاثة أشهر بقي بيدر الحصاد الإسرائيلي خاوياً إلا من دماء الأطفال والنساء، وتهديم أماكن الإقامة فوق رؤوس ساكنيها، فأتت الخطوة التالية بالتركيز على الاغتيالات الفردية وعلى أكثر من جبهة لترويع جميع أقطاب محور المقاومة، وبخاصة حزب الله الذي أكد على لسان قائده أنّ تلك الجريمة لن تمرّ دون ردّ وعقاب، ولم يطل الوقت فسرعان ما تمّ الإعلان عن الردّ الأوّلي على اغتيال القائد المقاوم صلاح العاروري باستهداف قاعدة “ميرون” بشكل مباشر، واضطر الجيش الإسرائيلي للاعتراف بدقة ما ورد في بيان المقاومة الإسلامية عن استهداف القاعدة المذكورة، وأتى كلّ ذلك متزامناً مع حمى للتحرك الأميركي وتزخيم لحضور المسؤولين الأميركيين: هوكشتاين ومن بعده وزير الخارجية الأميركية بلينكن للتعامل وفق الحدّ الأدنى الممكن مع تداعيات التهوّر الإسرائيلي والحماقات المتتالية التي تفتح الأفق على المجهول أمام الكيان المؤقت ورعاته، فتوسيع دائرة الحرب غير المضمونة يعني المزيد من الغرق في وحول فقدان كلّ شيء، ولعلّ هذا ما أشار إليه المعلق العسكري في قناة “كان”: روعي شارون بتاريخ: 8/1/2024. مشدداً على أنّه إذا سار الجيش الإسرائيلي (بعملية مكثفة ضدّ قوة الرضوان في حزب الله فالاحتمال الأكبر أننا سنكون في حرب شاملة)، وتابع موضحاً تداعيات ذلك بالقول: (“لهذا السبب بلينكن هنا، وقبل أسبوع هوكشتاين كان هنا، الهدف هو الوصول الى اتفاق والقفز عن مرحلة الحرب، ليس مؤكداً أنّ هذا ممكن، لكن يوجد قليل من التفاؤل…) ومدلول الكلام الذي يشير إلى التفاؤل وإنْ كان قليلاً يدلّ على أنّ عكس ذلك يعني الذهاب باتجاه التشاؤم وما يتناقض مع المطلوب إسرائيلياً. وهذا يتقاطع مع ما أوردته صحيفة “واشنطن بوست” بخصوص إرسال الرئيس الأميركي جو بايدن كبار مساعديه إلى الشرق الأوسط بهدف (منع اندلاع حرب شاملة بين “إسرائيل” وحزب الله)، ولا سيما في ضوء معطيات تشير إلى أنّ بنيامين نتنياهو قد يرى في القتال الموسّع في لبنان “المفتاح اللازم لبقائه السياسي”.
لم يطل أمد تلك الصورة الضبابية، إذ اتضحت حقيقة الموقف الإسرائيلي بتصريح وزير الحرب يوآف غالانت بتاريخ 8/1/2024. موضحاً أنه يتعيّن على “إسرائيل” التوصل إلى (تسوية سياسية مع حزب الله لأنها لا تستطيع تدميره بالكامل)، ومن شأن مثل هذا التصريح لـ “غالانت” أن يدفع كلّ متابع موضوعي ومهتمّ لمعرفة الأسباب والعوامل الضاغطة التي مهّدت لإطلاق اعتراف كهذا بلسان من سبق وكرّر تهديداته بإعادة لبنان إلى العصر الحجري، كما سبق وأكد مراراً على حتمية إبعاد قوات حزب الله عن الحدود إلى شمال الليطاني بشتى الطرق، وإذا تعذر ذلك فسيقدمون على فرض الأمر عسكرياً. ولعله من المفيد هنا تسليط الضوء على عدة نقاط مهمة قد تسهم في توضيح الصورة المركبة، ومنها:
ـ استهداف قاعدة ميرون التي تبعد أكثر من سبعة كيلومترات عن الحدود اللبنانية ليس أمراً عادياً، وتداعياته تفوق ما قد يخطر على الذهن عسكرياَ على الصعيدين التكتيكي والعملياتي، وهذا يطرح سؤالاً مشروعاً فحواه: إذا كان استهداف العين العسكرية الإسرائيلية الأهمّ مجرد ردّ أوّلي، فأين تصل حدود الردّ الكامل؟ وبخاصة إذا علمنا أنّ قاعدة ميرون واحدة من اثنتين من أهمّ القواعد المسؤولة عن الرصد الاستطلاعي المتقدّم، والتحكم الاستراتيجي وتوجيه سلاح الجو، وتزويد منظومات الدفاع الجوي بالمطلوب بشكل لحظي، فهي تضمّ أكبر قاعدة بيانات، ومجال عملها يتجاوز الحدود الشمالية إلى العديد من دول المنطقة، وليس لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي مراكز قيادة بديلة في كامل الشمال، ولذا اضطر لإطلاق أحدث منطاد للتجسّس والإنذار المبكر للتعويض مبدئياً عن خروج القاعدة من الجاهزية القتالية، أو تضرّرها النوعي الذي لا يحتمل معه جيش الكيان الدخول في حالة عمى راداري. وهذا يعني أنّ صواريخ حزب الله فقأت العين الإسرائيلية في وضح النهار، وأيّ ردّ خارج قواعد الاشتباك يستدعي الردّ على الردّ حتى وإنْ أدّى الأمر للدخول في الحرب الكبرى التي تعني الاضطراب وغياب الأمن والاستقرار عن كامل المنطقة، وقد يتسع مدى ألسنة اللهب لتطال ما هو أبعد من حدود المنطقة، وهذا يفوق طاقة حكومة نتنياهو على تحمّل مسؤوليته بشكل مباشر. كما أنّ الأميركي يتخوّف من تداعيات سيناريو محتمل كهذا، وباختصار يمكن القول إنه لا يفهم من تصريح غالانت إلا محاولة للنزول عن الشجرة العالية لكن بعين مفقوءة.
ـ ردّ المقاومة الإسلامية باستهداف قاعدة ميرون ليس الوحيد الذي أوْصل الأمور إلى ما هي عليه، بل هناك عوامل أخرى لا تقلّ أهمية، وبخاصة ما يتعلق بالمتغيّر الجيوبوليتكي الذي فرضه اليمن المقاوم بمنع مرور السفن الإسرائيلية، وجميع السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية، وإغلاق باب المندب في وجهها إلى أن يتمّ فكّ الحصار عن غزة والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية ومتطلبات استمرار الحياة، ولم يُجْدِ نفعاً التهديد الأميركي والمحاولات الفاشلة في تشكيل تحالف دولي تقوده واشنطن لكسر القرار اليمني، ومن شأن هذا المتغيّر الجديد أن يترك آثاره وتداعياته ليس فقط على الصراع المزمن الذي فرضه الوجود الصهيوني في الكيان المؤقت، بل إنّ الآثار والنتائج قد تمتدّ لتشكل إحدى روافع البيئة الاستراتيجية المطلوبة لإعلان وفاة الأحادية القطبية.
ـ الأمر الثالث الأهمّ الذي ألزم غالانت ونتنياهو ومن يدعم تل أبيب على إعلان بدء النزول عن الشجرة العالية يعود للأداء الفلسطيني الإعجازي، وعلى الصعيد العسكري بجناحيه اللذين يحلق بهما، أيّ بالمقاومين الذين يخوضون أعمالاً قتالية ويسطرون ملاحم غير مسبوقة في الكفاءة القتالية، وبالمواطنين العاديين الذين يعضّون على جراحهم ويحتضنون مقاومتهم متمسكين بكلّ مقومات السيادة والكرامة على الرغم من الوحشية والإفراط في العدوانية الصهيونية، وفي كلّ يوم يمرّ يتآكل ما تبقى من هيبة وآمال بترميم ردع ذهب ولن يعود.
خلاصة:
هناك عوامل أخرى ذاتية وموضوعية لا مجال لاستعراضها كاملة هنا، وباختصار شديد يمكن القول: إذا كان استهداف حزب الله لقاعدة ميرون قد فقأ العين الإسرائيلية أو عطل قدرتها البصرية والاستطلاعية ولو مؤقتاً، فإنّ محاولات الهروب إلى الأمام تعني تكسير الرجل البرية لجيش الاحتلال، كما أنّ التعنت الصهيو ــ أميركي يقود بالضرورة إلى اقتلاع الكثير من ريش الخوافي في جناح الاقتصاد الذي بدأ بالعرج، ولن تفلح محاولات واشنطن بإبقاء العجلة الاقتصادية قابلة للدوران، وليس أمام أولئك إلا إرغام نتنياهو على النزول بجراحاته القاتلة عن الشجرة العالية التي تسلقها بدعم أميركي لامحدود، ولا يستبعد أن يدفعه عناده وصلفه إلى الانتحار بدلاً من الإقدام عملياً على ابتلاع مرارة الهزيمة والقبول بالسير طواعية إلى المحاكمة والسجن.

*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى