جولات الحسم المقبلة في جنيف… سورية بين الجديدة والمتجدّدة!
سومر صالح
ستة أشهر مصيرية تلت الدخول الروسي المباشر في الأزمة السورية حكمت تفاعلاتها السياسية والإستراتيجية شكل الحلّ المقبل في سورية، فبعد محاولة أميركية وإقليمية للانقضاض على سورية وتفتيتها انطلاقاً من إدلب عبر تنظيماتها الإرهابية في الشهر التاسع من العام 2015 جاء الدخول الروسي حازماً من جهة دعمه للدولة السورية وحافزاً لاستعادة الميدان السوري برمته، ومع هذا المتغيّر الاستراتيجي جرت محاولات عديدة لاحتوائه عبر إعلانات فيينا وصدور القرار 2254 ، ولاحقاً الانقلاب عليه عبر إعلان ميونيخ وصدور القرار 2268 ، وتكريس معادلة جنيف الأول بكليته، أيّ الإطاحة بالدولة السورية سياسياً في منحنى معاكس لسير الانتصارات الميدانية، ولكن الذكاء الروسي بإعلان الانسحاب الجزئي من سورية «بالتوافق والاستشارة مع دمشق» حوّل روسيا إلى ضامن لاتفاق ميونيخ وما تلاه من تفاهمات لوقف الأعمال القتالية وكان كفيلاً بتثبيت القرار 2254 كمرجعية دولية للحلّ في سورية. وبخلاف ذلك كان الكلام الروسي عن إجراءات أحادية الجانب كفيلاً بالعودة إلى سورية بزخم أقوى وأسقف مفتوحة في مواجهة الإرهاب وحتى داعميه ومموّليه، لذلك نستطيع القول إنّ إعلان الانسحاب الروسي من سورية «جزئياً» ثبّت القرار 2254 باعتباره المدخل السياسي للحلّ في سورية، وألغى أوهام المعارضة وداعميها بإمكانية العودة إلى القرار 2118 وبيان جنيف الأول باعتباره المرجعية السياسية الدولية للحل، وبالتالي يمكن أن نخلص إلى نتيجة نظرية مقدّماً بالقول إنّ ثلاثاً من المعارك هي من تشكل الإطار الحاكم للحلّ النهائي في الأزمة السورية، اثنتان منهما حسمت جولاتها وهما الميدان ومعركة المرجعية الدولية… والثالثة ستبدأ في نيسان المقبل، وهي من حيث الشكل استمرارٌ لمعركة المرجعية الدولية للحلّ، ولكنها في المضمون أكثر تعقيداً، وتعتبر محصلة المعركتين السابقتين، وهي معركة الدستور المقبل للجمهورية العربية السورية، والذي على أساسه سينتظم شكلٌ جديد لسورية المستقبل، وعلى إثر ذلك جنّدت الولايات المتحدة الأميركية فريقاً تقنياً استشارياً لوفد الرياض المعارض لمحاولة تحصيل أكبر قدر ممكن من المكتسبات استناداً إلى فهم انتقائي للقرار 2254 ومرجعيته النظرية إعلاني فيينا الأول والثاني.
بالتزامن مع انطلاق الجولة الثالثة من محادثات جنيف الثالثة ستبدأ معها جهود دولية وإقليمية لتهيئة المناخات المناسبة لإنجاح شكل الحلّ في سورية، والذي كان التوافق الروسي الأميركي الثاني محفزاً لها ويمكن القول أيضاً إنه إشارة له، ومعه بدأنا نسمع عن إمكانية تخفيف التوتر في الشرق الأوسط عبر ضبط التوازن ببين السعودية وإيران بواسطة باكستانية، أما داخلياً فنحن بانتظار حسم نهائي لشكل الوفد المعارض تمثيلاً وتكويناً وهو اتفاق دولي وإقليمي بالتأكيد، بعد التوصل إلى «اتفاق عملي» بين موسكو وواشنطن على القائمة الموحدة للمنظمات الإرهابية في سورية حسب تصريح أليغ سيرومولوتوف طبعاً.
بالانتقال إلى ما يمكن تسميته المعركة القادمة وهي معركة الدستور المقبل وفق المرجعية الدولية للحلّ، أيّ القرار 2254 ، يمكن معها تبويب جولاتها مبدئياً إلى ثلاث عناصر… وهي الأطر العامة للدولة والحياة السياسية وثانياً شكل النظام السياسي في سورية وثالثاً الانتخابات العامة وفق الدستور الجديد، ولكن ما زالت دون تلك الجولات عقبة كبرى وهي مسألة «الجسم الانتقالي» الذي تتكلم عنه المعارضات السورية خصوصاً معارضة الرياض والذي سيضع دستوراً جديداً للبلاد باعتقادها وتصوّرها – وهو ما ترفضه القيادة السورية جملة وتفصيلاً لأنه انتهاك واضح لمبدأ عمل الدولة وهو «الدستورية والاستمرارية»، فالاختلاف ما زال قائماً حول «ماهية العملية السياسية» وبالأدقّ مصطلح «الانتقال السياسي» والذي سيفضي إلى «حكم ذي مصداقية» وفق القرار 2254 ، وهذا من دون أدنى شك يحتاج توافقاً أميركياً روسياً على توضيح معنى «الحكم» وفق الفقرة الرابعة من القرار 2254 ، باعتباره أساساً أو نتيجة للدستور الجديد، من هنا تأتي أهمية ورقة دي ميستورا حول نقاط التوافق بين الوفود السورية المشاركة بجولة جنيف 3 بجولته الثانية، والتي مهّدت نظرياً إلى وضع تصوّر أوّليٍّ قابل للنقاش حول الأطر العامة للحياة السياسية في سورية، والتي على أساسها يمكن أن تنتقل المباحثات الغير مباشرة إلى شكلها التفاوضي المباشر، بعد تقديم الملاحظات النهائية على ورقة النقاط التوافقية والاتفاق عليها، خصوصاً على نقاط وحدة وسيادة واستقلال أراضي الجمهورية العربية السورية، واعتبارها جزء من الأمة العربية، ولا يجوز التنازل عن أيّ جزء من أراضيها بما فيها الجولان السوري المحتلّ طبعاً هنا قدّم السيد دي ميستورا نقطة خلافية لا نعتقد أنها «توافقية» حول «سلمية» النضال لاسترجاع الجولان فقط لأنّ الشعب السوري له كامل الخيارات المتاحة لاسترداد أرضه المحتلة، إضافة إلى قيم المواطنة والتعددية السياسية واحترام الخصوصيات الثقافية ودور المرأة الفاعل… كلها نقاط مهمة يمكن معها الانتقال إلى مرحلة المباحثات المباشرة، ولكن يبقى حسمها رهناً بإزالة التحفظات حول بعض المفردات والقضايا التي أوردها دي ميستورا من قبيل حكم غير طائفي، هويات وطنية، إعادة بناء جيش وطني… حصرية الوسائل السلمية لاسترداد الجولان… ، وحسم هذه القضايا والأطر العامة والاتفاق عليها يمهّد إلى جولة جديدة أكثر تعقيداً وتفصيلاً من الأولى وتمثل لبّ المعركة القادمة وهي «مضامين الدستور» والتي ستدور حول محاور أساسية منها طبيعة النظام السياسي والصلاحيات التنفيذية للحكومة ومن يعينها وتفويض الصلاحيات ودور السلطة التشريعية… ومبدأ فصل السلطات وتوزانها، وهنا ستكون الإشكالية أكثر تعقيداً إذا بقيت المعارضات السورية الخارجية على أجنداتها الإقليمية لا الوطنية…
وفي ظلّ بقاء التفاهم الأميركي الروسي ثابتاً وقائماً سيكون الحلّ هو العودة إلى المرجعية الدولية ذات الصلة في الإضاءة على تلك النقاط، أيّ العودة إلى القرارين 2254 و 2268 ومرجعية فيينا وميونيخ، والتي تشير إلى «حكم ذي مصداقية يشمل الجميع وغير طائفي» القرار 2254 ، استناداً إلى ذلك يمكن بلورة اتجاهين أساسيين حول شكل الدستور المقبل انطلاقاً من فهم حيثيات القرار 2254 حول مسألة «الانتقال السياسي»، الاتجاه الأول ويمثل رؤية الحكومة السورية وينطلق من عملية سياسية تفضي إلى اتفاق على حكومة موسعة وتعديل للدستور وفق المبادئ الدستورية الراسخة وعبر استفتاء شعبي عام يحافظ على الطابع المركزي للدولة ونظامها الرئاسي الجمهوري مع إمكانية التوسع اللا مركزي إدارياً، وتفضي إلى انتخابات تشريعية يحدّد الدستور الجديد شكلها وتوقيتها بعد الاتفاق على قانون للانتخابات العامة، والاتجاه الثاني وهو وجهات نظر المعارضات السورية والتي تنقسم عموماً بين رؤيتين الرؤية الأولى وتمثل المعارضات الديمقراطية والعلمانية والتي تتراوح مقترحاتها بين النظام البرلماني والطابع اللا مركزي للدولة… وبين وجهة نظر معارضة الرياض التي تتمسك «بجسم انتقالي» بالاتفاق مع بعض «شخصيات» الحكومة يضع كلّ الصلاحيات التنفيذية بيده وحتى التشريعية موقتاً ريثما يتمّ وضع دستور جديد وفق رؤيته وأجنداته، وإذا ما قاطعنا الفقرة 2 مع الفقرة 4 من القرار 2254 يتضح أنّ وجهة نظر معارضة الرياض لا تستند إلى مرجعية القرار 2254 التي وصّفت ماهية العملية السياسية «بمفاوضات بين الحكومة والمعارضة» تفضي إلى «حكم ذي مصداقية»، وليس «جسماً انتقالياً» كامل الصلاحيات كما تحاول معارضة الرياض تصويره وتسويقه… لتبقى وجهة نظر الحكومة السورية هي الأبقى لعاملين اثنين: الأول استنادها إلى أساسيات العمل الدستوري، ومبدأ التشاركية، وعدم الإلغاء والإقصاء، والثاني استنادها إلى عامل الشرعية المنبثق من الشعب الذي استفتى على دستور العام 2012، والالتفاف الشعبي الكبير حول مفهوم الدولة والجيش…
والى حين إنضاج متطلبات التسوية السياسية للأزمة، يبقى الجيش العربي السوري مُكمّلاً لمهماته الوطنية في القضاء على الإرهاب باعتباره الشرط اللازم لإنضاج الحلّ السوري للأزمة ومتجاوزاً طابع التسويات الذي تفرضه وقائع دولية وإقليمية…