الإرهاب: الواقع والمسار 1

د. لبيب قمحاوي

ما ابتدأ بالنسبة للعديد كمؤامرة أو مكيدة أو كمخطط أميركي، أصبح الآن واقعاً مؤلماً ممتداً على مستوى العالم، ومن هنا ننطلق في محاولة جادّة لسبر غور هذا الواقع، وليس للبكاء على الأطلال وعلى الأسباب والمسبّبات التي أدّت إلى ذلك وإلى ما نحن فيه.

الخوض بعقلانية في موضوع بعيد عن العقلانية مثل «الإرهاب»، أمر أساسي وهامّ لمنع التوصل إلى نتائج منقوصة أو غير حقيقية. وعلى كلّ من يهمّه هذا الأمر أن يضع عقله وقلبه وعواطفه على مسار علمي جادّ في محاولة رصينة لفهم واستيعاب الكيفية التي تمكّن إنساناً ما أو مجموعة ما من اللعب بعقل إنسان آخر إلى الحدّ الذي يجعله يقوم بتفجير نفسه والتضحية بحياته في سبيل هدف ما أو قناعة ما لن يعيش حتى يشاهد أثر تضحيته تلك على ذلك الهدف أو تلك القناعة.

الدخول في عملية اتهامية أو تجريمية لتحديد من هو المسؤول عن تبلور ظاهرة الارهاب أمر غير ذي جدوى الآن كونه لن يُغيّر شيئاً مما هو قائم، ولن يؤدّي إلى أيّ نتائج جديدة أو هامة. فالإرهاب الذي ابتدأ كعنوان ألصَقهُ الإعلام الغربي بالإسلام والعرب من خلال أعمال ونشاط تنظيمات مثل «داعش» أو «جبهة النصرة» ومثيلاتها ومن قبلهم «القاعدة»، قد انتقل به الحال من كونه ظاهرة متناثرة هنا وهناك إلى وضع جعل من «الإرهاب» جزءاً من الحياة السياسية في الإقليم الشرق أوسطي ومن ثم العالم، حيث انتقلت نشاطاته من نطاق الدولة إلى حدود الإقليم ومن ثم إلى العالم المفتوح.

إنّ خطورة التطورات الأخيرة في وضع ما يسمّى بالإرهاب هي في كونه أصبح عابراً للحدود من خلال قدرته على الاستقطاب الطوعي للأتباع من مختلف البلاد. ولم يعد الحافز مقتصراً على قضية واحدة حصراً مثل الدين أو المذهب، أو قضية سياسية بعينها مثل فلسطين أو قضايا اقتصادية مثل البطالة والجوع والفساد، بل أصبح يضمّ العديد من القضايا المختلفة ضمن إطار أصولي ديني متزمّت مما جعل مراقبة المتعاطفين معه أو المؤيّدين له أمراً في غاية الصعوبة، إن لم يكن شبه مستحيل. باختصار، أصبح الإرهاب في غياب الحياة السياسية والتنظيمات الحزبية في دول العالم العربي هو التعبير الأصدق جماهيرياً على المعارضة الشعبية الرافضة للاستبداد وللعديد من أوجه الفساد السياسي والاقتصادي السائدة في تلك الدول.

لقد انتقل الإرهاب من كونه ظاهرة مؤطرة بالجهل والعنف الوحشي تعبّر بشكل عنيف ودموي عن قضايا ترتبط بالتزمّت الديني الإقصائي بالإضافة إلى قضايا سياسية أو اقتصادية، لينتهي به الأمر إلى كونه مجموعة من القناعات تعكس قناعة من يؤمن بها بحقه في أن يمارسها بأكثر الوسائل دموية ووحشية باعتبارها وسائل طبيعية تعبّر عن قناعات هي في نظر أصحابها مشروعة فكراً ووسيلة، مع أنها في نظر الآخرين إرهاباً دموياً يخلو من العقل والإنسانية.

إنّ جوهر «الإرهاب» بكلّ صُوَرِهِ ابتدأ كشعار أكثر منه كتنظيم. وهذا عزّز من قدرته على الانتشار بشكل واسع يماثل سهولة انسياب الماء في الشقوق. وجل ما نسمعه في وسائل الإعلام عن مقاومة هذا «الإرهاب» والحرب عليه لا يتعدّى في معظم الأحيان مقتل فلان أو علان من قادة داعش أو جبهة النصرة إلخ… دون توفر القدرة على التغلغل في التنظيم نفسه واختراقه وتدميره من الداخل، وربما يعود الأمر في ذلك لعدم وجود تنظيم بالمفهوم التقليدي. واعتماد التنظيم منذ بداياته على استعمال وسائل التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي الرقمي قد سهّل من إمكانات التواصل بين أعضائه وخفف من أخطار التسيّب الأمني حيث زاد من صعوبة تتبّع آثار قادة تلك الحركات الذين لا توجد حاجة فعلية للتواصل الشخصي في ما بينهم نتيجة توفر إمكانات التواصل الرقمي. وفي ظلّ هذا الوضع، فإنّ تعزيز إمكانية الاختراق تطلبت قيام الدول المهتمّة بخلق مجموعات أو أذرع تابعة لها تعلن عن ولاءها لتلك التنظيمات طوعاً وعن بعد، وتقوم بالتالي بعملياتها باسم تلك التنظيمات دون أن تكون لها بالضرورة علاقة فعلية بالأمر، والهدف قد يكون خلق بلبلة لتلك التنظيمات مثل داعش أو جبهة النصرة إلخ… بالإضافة إلى وضع الأسس للاختراق الأمني المتبادَل من خلال التعاون المستقبلي بين المنظمات والأذرع المختلفة التي تطوّعت بالعمل تحت اسم هذا التنظيم أو ذاك مثل داعش مثلاً. وهكذا دخلت العديد من الأنظمة أو الدول في لعبة الإرهاب بهدف القضاء عليه دون أن تدري أنها قد أصبحت في الواقع جزءاً منه أو طرفاً فيه.

الإرهاب لم يعد إذاً ظاهرة مبعثرة هنا وهناك محدودة في قدراتها وتأثيرها، بل أصبح تدريجياً جزءاً مؤثراً في النظام السياسي لدول المنطقة وللإقليم. وانتقل بصفته تلك من كونه ظاهرة محلية إلى واقع إقليمي ومن ثم إلى مشكلة دولية تماماً كما هي عليه الحال الآن.

الإرهاب تجاوز كونه مشكلة بالنسبة لبعض الأنظمة ليصبح خطراً عليها وعلى وجودها وبقائها، وأصبح التعامل معه بإعتباره أحد الأخطار المحيطة بالنظام وبالأمن الوطني والقومي للدولة أمراً قائماً. وهذه هي الحال بالنسبة لبعض الدول مثل العراق وسورية ومصر واليمن وليبيا. أما عندما يتحوّل خطر الإرهاب إلى خطر على أمن واستقرار المجتمع المدني وطريقة الحياة في بلد ما كما هي عليه الحال بالنسبة لبلدان غربية مثل فرنسا وبريطانيا والمانيا، فإنّ الموضوع يصبح جزءاً من استراتيجية دولية لمكافحة الإرهاب. وقد استعملت بعض الدول مثل أميركا وروسيا هذا العذر وهو «الحرب على الإرهاب» لتحقيق استراتيجيات وأهدافاً تمسّ سيادة ومصالح دولاً أخرى خصوصاً دول الإقليم العربي تحت ستار «الحرب على الإرهاب». وهكذا تداخلت الأمور وتعدّدت الأسباب واختلط الحابل بالنابل وابتدأ الجميع بالشعور بوطأة ما يجري باعتباره خطراً مباشراً على مصالح الجميع، كلٌّ من منظوره الخاص.

الإرهاب أصبح جزءاًً من المعادلة السياسية والأمنية لمنطقة الشرق الأوسط. والأمر لم يعد محصوراً بالإسلام وبالتعصّب الديني، بل اتجه نحو الانتقال من حالة التنظيم المتزمّت المتعصّب الذي يعبّر عن نفسه من خلال عصابات أو تنظيمات دموية متناثرة لينتقل إلى مرحلة بناء الدولة الإسلامية المتزمة. ولا صحة للمقولة بأنّ قضايا التعصّب أو التزمّت الديني مثل الإغراق في الفصل بين الجنسين والحجاب الكامل وحجب المرأة ودورها عن المجتمع هي قضايا مشروعة باعتبارها صحيحة ومنسجمة مع منظومة المُثل والقيَم والأخلاق العامة. فتنظيمات مثل داعش نادت بذلك في الوقت الذي قامت فيه ببيع المرأة أو البنت الصغيرة للعبودية العامة والجنسية في سوق النخاسة باعتبار ذلك أمراً مشروعاً ومسموحاً به دينياً، بالإضافة إلى الدعوة إلى ممارسة «جهاد النكاح» الهادف إلى امتاع المجاهدين جنسياً باعتباره أمراً مشروعاً، في حين أنه عبارة عن نوع من أنواع الدعارة. فالمنع والسماح هما في الواقع أمران يتمّ استعمالهما بهدف تسهيل مهمة النجاح في الوصول إلى الأهداف المنشودة وفي التحوّل من وضع العصابة المسلحة إلى وضع الدولة الإسلامية. وهذا التحوّل هو مؤشر دموي لشيء جديد قادم بديلاً عن شيء قديم قائم.

إنّ التغيير المبني على هدم ما هو قائم واستبداله بشيء آخر جديد هو أمر متعارف عليه، ولكن استعمال سلاح الخوف المبني على العنف العلني الجائر والمفتوح ضدّ الأفراد المدنيين، والرعب المتخفي والنائم في ثنايا المجتمع المدني ومؤسساته، هو ما حَوّل هذا النهج من أمر مُتعَارَف عليه إلى «إرهاب» مرفوض. فالتغيير، إذاً، ليس هو المشكلة ولكن وسيلة التغيير الدموية من جهة والمُنتج النهائي لذلك التغيير من جهة أخرى هما لبّ المشكلة. والمعايير التي تحكم ذلك التغيير مثل التعصّب والتزمّت والقتل والإقصاء وعدم القبول بالآخر وغياب أيّ احترام لحقوق الإنسان والانتقال بالمجتمع من الصفة المدنية إلى الصفة الدينية، كلّ تلك أمور تجعل من المُنتج أمراً شيطانياً ملعوناً يشكل وجوده تهديداً للسلم المجتمعي وصحة وعافية المجتمعات المحلية والإقليمية بالإضافة إلى المجتمع الدولي واستقراره، خصوصاً إذا ما تحوّل ذلك المُنتج إلى دولة تمارس الإرهاب الدموي ضدّ مجتمعها المدني والمجتمعات المدنية لدول أخرى كوسيلة وكسياسة وكهدف.

الإرهاب الذي انتقل من كونه شعاراً أو عنواناً ليصبح واقعاً مريراً ما زال يفتقد إلى تعريف عادل تقبل به الشعوب أولاً. فالشعوب بالنتيجة هي مصدر الدعم لتلك التنظيمات المسمّاة بالإرهابية، وهي في الوقت نفسه الضحية الأولى لها.

لقد استعملت معظم دول العالم المتقدّم اصطلاح «الإرهاب» دون تفسير أو تحديد أو تعريف لماهية ذلك «الإرهاب». وقام الغرب بخلق نمطية إسلامية وعربية عامة لربط الإرهابيين والإرهاب بهما. وقد فتح ذلك المجال أمام بعض الدول خصوصاً أميركا و»إسرائيل» لاستعمال هذا الاصطلاح ضدّ الآخرين ومنهم الشعب الفلسطيني في نضاله ضدّ الاحتلال، مما جعل العديد من المجتمعات المناضلة ضدّ الاحتلال والظلم تنظر إلى مكافحة «الإرهاب» على الطريقة الأميركية والغربية كأداة استعمارية منحازة وموجهة ضدّها.

إنّ عداء الغرب وأميركا للمجموعات التي تعارض سياساتها، وتصنيف بعضها كمنظمات إرهابية، قد ساهم إلى درجة كبيرة في خلق تيارات متعاطفة، إنْ لم تكن داعمة، لتلك التنظيمات من منطلق أولوية الحق، هذا المنطلق الذي اختارت أميركا و»إسرائيل» وإلى حدّ ما الغرب أن تتجاهله لصالح مصالحها.

إنّ محاولة أميركا والعديد من الدول الغربية الدمج بين بعض المفاهيم الفكرية والمواقف السياسية من جهة و»الإرهاب» من جهة أخرى، قد أدّى إلى خلق فوضى دولية في التعامل مع موضوع «الإرهاب»، لأنّ هذا المسار قد أدّى إلى خلق العديد من المنابر التي ترفض ذلك التصنيف الغربي للإرهاب وتعتبره محاولة لإبتزاز الشعوب وإرغامها على تبنّي مسارات تتنافى وقناعاتها السياسية أو مصالحها الوطنية كوسيلة لمنع تصنيفها أو اتهامها من قبل العالم الغربي بأنها مؤيدة للإرهاب أو متعاطفة معه. وقد لعب هذا الأمر دوراً كبيراً في خلق بيئة داعمة لبعض المنظمات التي تمّ تصنيفها من قبل الغرب بالارهابية. إذ من الصعب وجود قبول لدى الجماهير العربية أو الإسلامية بتصنيف حزب الله مثلاً أو حركة الإخوان المسلمين أو حركة حماس الفلسطينية بأنها حركات إرهابية مهما كان حجم المعارضة التي يكنها البعض لأيّ من تلك التنظيمات، في الوقت الذي يتمّ فيه تجاهل ما تقوم به بعض المنظمات الصهيونية و»إسرائيل» من أعمال القتل والتنكيل الوحشي ضدّ المجتمع المدني الفلسطيني.

إنّ تنظيمات مثل حركة الإخوان المسلمين قد لا تكون في واقعها إرهابية بقدر كونها النبع الذي يستلهم منه بعض الإرهابيين فكرهم وتزمّتهم وتفسيرهم الدموي لما يعتبرونه انحرافاً عن مجرى الدين كما يفهموه، الأمر الذي يستوجب في نظرهم عقاب المخلوق للمخلوق في الدنيا عوضاً عن عقاب الخالق للمخلوق في الآخرة. وهذا الأمر لا يشكل بحدّ ذاته عذراً لتصنيف مثل تلك التنظيمات بالإرهابية كون ذلك أقرب إلى الابتزاز منه إلى الحقيقة. وقد تكون الحركة الوهابية في المملكة السعودية مثلاً مسؤولة أكثر من غيرها عن خلق وتشجيع بل وفرض مثل هذا الفكر الديني المتزمّت على المنطقة بهدف تحويل المجتمعات المدنية إلى مجتمعات دينية متزمّتة تدور حول نفسها في حلقات جهنمية مفرغة لا نهاية لها…

مفكر ومحلل سياسي

lkamhawi cessco.com.jo

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى