الحرب الباردة بين واشنطن وبكين… ومآلاتها
أسامة العرب
إنّ التخوّف من حرب باردة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين هو المسألة المحورية التي تدور حولها السياسة الخارجية الأميركية اليوم. وقد ظهر هذا التوتر واضحاً بين الطرفين إزاء إقرار أميركا تشريعاً يشجّع على تبادل الزيارات بين كبار مسؤوليها ونظرائهم في تايوان، وإزاء تعزيز موارد هذه الجزيرة الصينية بالسلاح. كما ظهر هذا التوتر أيضاً إزاء التحذيرات التي أطلقها وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون للدول التي توقع عقوداً استثمارية مع الصين، لا سيما الدول الأفريقية. كما تأزم الوضع أكثر بعدما قرّرت الولايات المتحدة حماية مصالحها القومية، من خلال فرض رسوم باهظة على الواردات الصينية وغير الصينية من الصلب والألمينيوم، ومن خلال فتح تحقيق في ممارسات الملكية الفكرية للبضائع الصينية.
ولذلك، حذّر الرئيس الصيني شي جين بينغ من أنّ أكثر الأمور حساسية بالنسبة إليه هي تايوان، وبأنّ هذه الجزيرة هي نقطة اشتغال عسكرية محتملة تسعى إلى تقسيم الصين. كما أكد وزير الخارجية الصيني وانغ يي، بأنه في حال اندلاع حرب تجارية بين الصين والولايات المتحدة، فإنّ بكين ستردّ ردّاً جازماً وسريعاً. ولا يغيب عن أحد أنّ سبب إقالة ريكس تيلرسون من الخارجية يعود إلى خلافاته مع الرئيس الأميركي حول قضايا رئيسية تشمل الصين والاتفاق النووي الإيراني، واعتراضه على سياسة اليد المفتوحة تجاه كوريا الشمالية. ولهذا جاء التغيير الأميركي سريعاً بمايك بومبيو، المناهض لسياسات سلفه بكافة المجالات. غير أنّ ترامب ما يزال ميالاً لمهادنة الروس، لأنه يعتبر أنّ الصين التحدي الأكبر في المدى المنظور، ولذلك فهو يغازل الروس سراً لإبعادهم عن الصين، لكن هذه المهمة شبه مستحيلة، حيث، أكدّ وزير الخارجية الصيني منذ بضعة أيام أنّ علاقة بلاده مع روسيا مثل الجبال لا تتزعزع، وبأنها سوف تكون أفضل مستقبلاً، كما أشار إلى أن الهواجس الأميركية من الخطر الاستراتيجي الصيني ومن رغبة الصين بالحلول مستقبلاً محلّ الولايات المتحدة على الساحة الدولية هو أمر غير صحيح.
إنّ هذه التوترات الجارية على الصعيد الدولي تذكرنا بفترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، كما أنها تلقي بظلالها على العلاقات مع دول أخرى، كألمانيا التي أكدت علناً بأنها والصين هما المقصودتان من الإجراءات الحمائية الأميركية، لا سيما أنّ هنالك إصراراً أميركياً على فرض الرسوم على العلاقات التجارية مع بعض الدول دون الأخرى، حيث أعرب وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتايمر بأنّ أميركا لم تفرض هذه الرسوم لحماية مصالحها القومية، كما تزعم، وإنما لتوجيه ضربة قوية إلى الصين وألمانيا، وإلى تقسيم أوروبا على المدى المنظور. كذلك، فقد أعرب الوزير الفرنسي برونو لومير بأنّ على أوروبا أن تردّ بصوت واحد على الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي، وبأن لا فعالية لأي رد ما لم يكن جماعياً.
إنّ هذه الأجواء الشاحنة على الساحة الدولية، انعكست سلباً على الملف الكوري الشمالي، الذي يشكل ملفاً مقلقاً للولايات المتحدة. ولذلك، أعرب الرئيس الأميركي بأن محادثاته المزمع عقدها مع نظيره في كوريا الشمالية قد تنتهي بفشل، وبأنّ أحداً لا يعرف ما الذي من الممكن أن يحدث مستقبلاً. كما كشف الوزير الأميركي ستيف منوتشين بأنه بات لترامب شروط للقاء الرئيس الكوري كيم أون، وهي عدم إجراء كيم أيّ تجارب نووية أو صاروخية من الآن فصاعداً، والتزامه بنزع كامل السلاح النووي لبلاده وقبوله باستمرار المناورات العسكرية الأميركية المشتركة مع كوريا الجنوبية.
إنّ ما تقدّم ساهم بتمتين التحالف الروسي – الصيني القائم في أكثر من مستوى، وفي أكثر من منطقة. كما ساهم بإقناع الصين بضرورة تبديل دورها في الشرق الأوسط في المدى المنظور، وبدخول المعترك السياسي وربما العسكري بشكل مباشر.
فالروس اليوم هم أصحاب المبادرات، وهم يبحثون عن شريك فعلي في الحلول السياسية في الشرق الأوسط، وأسباب الدخول الروسي إلى المنطقة معروفة، وأهمها الفراع الذي أحدثه الانكفاء الأميركي والرغبة في استعادة دور الاتحاد السوفياتي. وبالتالي، فإنّ القدرة الصينية على الدخول إلى المنطقة من بوابة موسكو مفتوحة، وربما لذلك قال وزير الخارجية الصيني بصوت جهوري: إنّ العلاقة مع روسيا كالجبال لا تتزحزح. أما على الجانب الإيراني، فقد تعزّز الموقف الروسي – الصيني بضرورة دعم الاتفاق النووي الإيراني ورفض تعديله، كما بدا هذا الدعم واضحاً من خيبة أمل وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بإقناع إيران بتعديل الاتفاق، حيث قال مؤخراً: «لقد كانت رحلة شاقة إلى طهران ولم نحصد أية نتائج». ومن ثم لوحظ تحوّل الموقف الأميركي بعدها إلى موقف متخبط، حيث استعار الرئيس الأميركي عبارة بريجينسكي عن احتواء إيران، ثم تحدّث عن عزلها، وبات أقصى ما يطمح إليه حقيقة هو الضغط على إيران لوقف تطوير برنامجها الدفاعي، لا تعديل الاتفاق.
لكلّ ما تقدّم، فإنّ موسكو وبكين تصرّان على إقناع واشنطن أن التفرّد بالعالم كقطب أحادي قد انتهى، وأن التطورات الدولية أفرزت أقطاباً عدّة تتحدى النفوذ الأميركي، وبات محور القوة وصنع القرار لا يقبل أن يكون إلا بالتراضي. وما يهمنا في هذا الصدّد، أنّ الشرق الأوسط مقبل في هذه الآونة على مرحلة استقرار، وإعادة بناء اقتصادي واجتماعي بعدما باتت واشنطن مدركة أن محور المقاومة بات محصناً من إيران إلى العراق فإلى سورية وإلى لبنان، وبعدما لم يعُد التقسيم على أرض الواقع وارداً في الشرق الأوسط، سواء أكان ذلك في العراق أم في سورية، وبعدما بات لبنان محصّناً من الإرهاب، وقادراً على الحفاظ على مستلزمات الاستقرار. وبعدما باتت واشنطن مدركة أيضاً أنّ موسكو وبكين باتتا مشاركتين أساسيتين في صنع القرار الدولي، وبالتالي فإنّ مسألة رضوخها للأمر الواقع، ما هي إلا مسألة وقت، لا أكثر ولا أقلّ، وهذا ما عبّر عنه الوزير ريكس تيلرسون في أكثر من مناسبة، وأدّى إلى إقالته.