مناقشة المادة 95 من الدستور فرصة ثمينة
البروفسور فريد البستاني
في الرسالة التي وجّهها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى مجلس النواب، والتي حدّد لمناقشتها موعد 17 تشرين الأول المقبل، في أول جلسة للهيئة العامة مع افتتاح العقد العادي الأول للمجلس النيابي، فرصة ثمينة يحتاجها لبنان واللبنانيون أبعد من الموضوع المباشر الذي أدى إلى توجيهها والمتصل بالمادة 80 من الموازنة، وما تضمنته من حفظ لحقوق الفائزين في مباريات مجلس الخدمة المدنية لمراكز وظيفية في الدولة ضمن فئات ما دون الفئة الأولى، كموضوع تباين بين الكتل النيابية في النظر للدستور وتفسيره واتفاق الطائف وأحكامه.
الفرصة هي لمناقشة أعمق بكثير من الموضوع الذي أدى إليها. فالنقاش حول الصيغة اللبنانية التي نريدها لضمان الاستقرار واستمرار العيش المشترك وبالمستوى ذاته في بناء الدولة القوية والقادرة والمحصنة بوجه الفساد والمحسوبية والمحاصصة، نقاش مرتبك منذ سبعينيات القرن الماضي، عندما كان فريق من اللبنانيين، أغلبه من المسيحيين يدعو إلى العلمنة الشاملة في مقابل تمسك الفريق الآخر، وأغلبه من المسلمين، بالدعوة للإلغاء الشامل للطائفية. وهو ما يستعاد اليوم تحت عنوان اعتبار فريق من المسيحيين ان الدولة المدنية هدف منشود، وبديل مقبول للنظام الطائفي، لكنها ليست مجرد إلغاء الطائفية، وصولا إلى معادلة المناصفة الشاملة أو الدولة المدنية الكاملة، مقابل اتهام فريق من المسلمين لأصحاب هذا الكلام بالخروج عن نصوص الدستور ومضمون اتفاق الطائف الذي يدعو إلى البدء بمرحلة انتقالية تلغى خلالها وظائف ما دون الفئة الأولى، على أن يليها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية ووضعها لخطة مرحلية شاملة لإلغاء الطائفية، وهو ما لا إجماع حوله في فهم الدستور ونصوصه والطائف وأحكامه.
إذا ابتعدنا عن لغة السجال ودخلنا في عمق القضايا سنكتشف أن الحديث عن الدولة المدنية الشاملة يعني بالإضافة لتحرير الوظيفة العامة من القيد الطائفي، إلغاء دور المؤسسات الدينية المسيحية والإسلامية في شؤون الصحة والتعليم والأحوال الشخصية من الزواج إلى الميراث وما بينهما، وتحويل ملكيات المؤسسات الدينية الصحية والتعليمية والإجتماعية إلى رعاية الدولة أو منظمات المجتمع المدني، واعتماد قانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية يشمل الزواج المدني، وقانوناً موحداً للميراث. ومنطقي هو السؤال، هل لبنان ناضج لهذا الطرح وقادر على تحمل تبعاته، وجاهز لخوض غماره؟ وهل مشكلة هذا الطرح موجودة لدى المسلمين فقط، أم هي لدى المسيحيين والمسلمين معاً، ولدى اللبنانيين ومجتمعاتهم بلا استثناء، وهل قضية لبنان اليوم هي هذه؟
بالمقابل، سنكتشف أن الإلغاء الشامل للتنظيم الطائفي في الوظائف العامة، في ظل وجود تنظيم إجتماعي قائم على الطائفية، وتمثيل سياسي مرتكز على مكوناتها، وصعود شامل لعصبياتها، سيعني بلا مواربة على الأقل انتقال صيغة التوازن السكاني الحالي بين المسيحيين والمسلمين إلى وظائف الدولة، ما لم يؤد الشعور بالإحباط لدى المسيحيين إلى الابتعاد عن الوظيفة العامة والتفكير الجدي بالهجرة، واعتبارهم أن لا مستقبل لهم في لبنان ما دام حجم حضورهم في الدولة سيرتبط بالتوازن العددي بينهم وبين المسلمين، وهو توازن سيزداد الخلل فيه مع الزمن، فهل هذا ما يحتاجه لبنان، وهل لبنان ناضج لقرار بهذا الحجم، وهل لبنان جاهز لمثل هذه المخاطرة؟
العودة إلى نص الدستور وما تم في إتفاق الطائف ستتيح لنا إكتشاف معادلة جوهرية، تقدم مثالاً عليها دعوة الطائف والدستور لتزامن إنشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه الطوائف مع انتخاب أول مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وهذا يعني ربط الدعوة في كل مجال لإلغاء القيد الطائفي، بضمان مقتضيات الوفاق الوطني، وهو ما ورد نصاً في المادة 95 عند الحديث عن الوظائف العامة، حيث قال نصاً تعتمد الكفاءة… وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني ، والسؤال الذي سيكون مطروحاً على مجلس النواب، هو الفرصة الثمينة التي أتاحتها رسالة رئيس الجمهورية، ما هي مقتضيات الوفاق الوطني التي يجب أن تحضر لدى تحرير الوظيفة من القيد الطائفي، وكيف يمكن تطبيقها؟
نحتاج إلى بعض العقل والواقعية في مقاربة قضايانا الكبرى بدلاً من تبادل التهديد بالجنون والتعجيز، فهل سنحسن استثمار هذه الفرصة الثمينة التي وفرتها رسالة رئيس الجمهورية، أم سنفتتح نقاشا يبدأ ولا ينتهي، فيصيبنا ما أصاب بيزنطة في القرن الخامس عشر ميلادي، عندما حاصرها السلطان العثماني محمد الثاني، وبينما كان مصير الإمبراطورية بأكملها على المحك، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة جنس الملائكة، وبينما كان الجدل محتدمًا في قاعة مجلس الشيوخ كان القتال يدور في شوارع بيزنطة بعد أن تمكّن جنود محمد الثاني من اقتحام أسوارها؟
كم من تهديد نعيشه اليوم لا يقلّ خطورة عن تهديد سقوط بيزنطة!؟
نائب الشوف في مجلس النواب اللبناني