التطويف والتسييس
سحر أحمد علي الحارة
هل هبطت الطائفية والمذهبية والعرقية على دنيا العرب وأوطانهم من الفراغ؟ أم هي تاريخ من التخلف في الفكر والممارسة سياسياً ودينياً وإنسانياً؟ أما وقد أصبحت الآن جزءاً من حياتنا اليومية وقد استخدمها الأعداء لتدمير بلادنا وتفتيت وحدتنا الوطنية، فلا بدّ لنا من البحث عن حلّ جذري لهذا الفكر الهجين الطارئ على الأمة، والبحث يقتضي العودة إلى الأصل، إلى نقطة البداية في أسباب انهيار المشروع النهضوي العربي في كلّ بلد على حدة، وفي البلدان العربية مجتمعة، بدرجات مختلفة ومتفاوتة.
نقطة البداية في انهيارنا، هي بلا شك غياب حرية التفكير الديني والسياسي وتحوّل الاستبداد الديني إلى استبداد سياسي شامل من خلال أنظمة متخلفة ومعادية شعوبها، ومعيقة لحركة التاريخ العربي وتطوره، فجاءت القوى التكفيرية المرتبطة بمشاريع الأعداء من خارج الوطن لتملأ الفراغ السياسي والفكري العربي. لا بدّ من إعادة التوازن إلى مجتمعنا من خلال إطلاق مبادرة سياسية تاريخية كبرى وشاملة لكلّ نواحي حياتنا. مبادرة تعتمد حرية الفكر والعمل والاعتقاد الديني والسياسي وتأسيس الأحزاب والجمعيات وبناء دولة المواطنة والمساواة وسيادة القانون.
إنّ بناء الدولة الوطنية الحديثة والوصول إلى مصالحة وطنية عامة وجادة، يقتضيان بالضرورة حشد كلّ القوى والشخصيات والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية على برنامج سياسي وطني نهضوي جامع، يقوم على الحقيقة والمصارحة والمسامحة والسيادة والإرادة الشعبية الحرة التي ترفض التدخل الخارجي والفكر التكفيري معاً، كما ترفض العنف والإرهاب وترسم بدقة طريق بلادنا لقفزة تاريخية كبرى، تعتمد دستوراً تعاقدياً على ثوابت وطنية اجتماعية واقتصادية تكاد تحقق الإجماع بين أبناء الشعب.
إنّ إطلاق حرية العمل السياسي وتعدّد الأحزاب والتيارات السياسية، مع ما يرافقه من حرية الفكر والإعلام، يحاصر المشروع الإرهابي التكفيري ويسحب البساط من تحت القوى الإقليمية والدولية التي تحاول تدمير المنطقة وتفتيت الشعب عرقياً ومذهبياً وطائفياً.
الأمة كلها أمام منعطف تاريخي كبير واستحقاق سياسي يقتضي الاحتكام إلى الإرادة الشعبية لبناء دولة المؤسسات على مبادئ عقد اجتماعي جديد يكرِّس ثقافة الانتماء والانفتاح والمواطنة الحرة المتساوية.
إنّ التحديات الكبرى التي تواجهها الأمة العربية في هذا الظرف التاريخي الخاص جداً، وهي تعيش مرحلة انتقال كبرى من عصر إلى عصر، بعد أن بدأت خصائص الأنظمة القائمة تنهار بسبب انتهاء الشرط التاريخي الذي أنجبها من خلال معطيات وشروط تاريخية سابقة. الشكل القديم للسلطة في كلّ بلد على حدة، بدأ يتفكك وينهار، مترافقاً مع فراغ استراتيجي سياسي كبير تحاول قوى الإرهاب والتدخل الخارجي أن تملأه لمصلحتها وبما يدمر حاضر الأمة ومستقبلها. أما النظام الإقليمي فقد بدأ يتفكك وينهار أيضاً من الجامعة العربية إلى الاتحاد الأفريقي ومنظمة العمل الإسلامي، وحتى تجربة الاتحاد الأوروبي أصبحت موضع شكّ وتساؤل حول إمكانية استمرارها، في ظلّ التعقيدات الدولية الراهنة، والنظام الدولي الذي كرّسته الحرب العالمية الثانية، وما نتج عنها من تأسيس منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المتخصِّصة بدأ يفقد مبرّره التاريخي وشروط بقائه، باعتراف جميع الأطراف، وتحاول الدول العظمى إعادة تشكيل نظام عالمي جديد على مقاس مصالحها، مهما أدى ذلك إلى تغيير في الجغرافيا السياسية للدول الصغيرة والفقيرة، حتى لو جاء ذلك على حساب انهيار الدول وتحولها إلى دول فاشلة عبر فوضى مدمِّرة تكاد تشمل الآن الكثير من الدول في القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وحتى في قلب أوروبا أيضاً.
إنّ الصراع الدولي على أشدّه الآن، لكنه يتجلى على شكل حروب بالواسطة كما يحصل في سورية واليمن والعراق والسودان والصومال وليبيا وأوكرانيا. هذه الأزمة الكونية الكبرى تقتضي اتخاذ مواقف تاريخية كبرى لمواجهتها وحلها، وعلى القوى الحية في المجتمع العربي كافة بكلّ بلدانه من دون استثناء أن تطلق برنامجاً توحيدياً شاملاً يتحقق حوله أكبر قدر من الإجماع الوطني لتحديث البنية السياسية الحقوقية للنظام السياسي العربي وبناء الدولة العربية الحديثة وإطلاق موجة واسعة ومنضبطة من الحريات العامة والخاصة ومساعدة المجتمعات على النضج السياسي لتحصين الوحدة الوطنية وبناء عصر عربي جديد يجد له مكاناً في النظام العالمي والنظام الإقليمي على أسس متساوية ومتكافئة.